story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

وزارة الصحة ليست سيادية!

ص ص

هناك الكثير من المسكوت عنه في ما يجري هذه الأيام في ملف الصحة. وما نتابعه من أحداث في الشارع، أو يخرج من كواليس المؤسسات، مجرد أعراض لمشكلة يتواطأ الجميع على إخفائها.
لا يمكن أن يكون حليب السباع الذي شربته السلطة يوم أمس وهي تستعمل القوة ضد ممرضي وتقنيي وأطر الصحة، مجرّد انعاس لمزاج حكومي تفرّج على جل المسيرات والوقفات الاحتجاجية المكثفة في الشهور الأخيرة، ثم تغيّر فجأة مع احتجاج موظفي وأطر الصحة.
السلوك الحكومي تجاه الملفات المرتبطة بالشأن الصحي يوحي بأن الأمر يتعلّق، بالنسبة إليها، بلمف “سيادي”، ينبغي لها أن تنفذ ما تقرّر فيه “بزز ولا بالخاطر”.
هذا التعنّت والاضطراب والتخبط الذي يسم التعاطي الحكومي مع إضراب الطلبة الأطباء ليس عاديا. و”الهيبة” التي تتعامل بها الحكومة معه تكشف عن هذا الطابع السيادي الذي تمنحه الحكومة لسياساتها الجارية في قطاع الصحة.
تريدنا الحكومة، وهي تردد اسم وصفة الملك بين جملة وأخرى أثناء حديثها عن التغطية الصحية والتأهيل المأمول للخدمات الصحية العمومية، والعرض المرتقب تقديمه من طرف القطاع الخاص… أن نتخيّل أن للأمر ارتباط بإرادة فوق حكومية، ونلتزم الصمت بعد ذلك.
قبل يومين فقط، جرى تعميم إعلان يربط بشكل غير معتاد بين فتح مستشفيين جديدين في كل من الحسيمة والقنيطرة، وتعليمات ملكية قالت الحكومة إنها صدرت بهذا الشأن. ولا يمكن أن ننسب الإعلان إلا للحكومة، بما أن قنوات تواصل القصر الملكي والديوان الملكي معروفة.
أن تكون هناك توجيهات ملكية وحرص خاص من جانب الملك على بعض المشاريع التي تحظى بالأولوية لديه، أو يقوم بتدشينها في إطار جولاته الميدانية، هذا كله طبيعي ومعتاد.
لكن أن تربط الحكومة بشكل مباشر بين فتح المستشفيين والتعليمات ملكية، فهو ما يستعصي على الفهم، لأن سلطات الملك واختصاصاته كبيرة وواسعة واستراتيجية، وينص عليها الدستور بشكل حصري، أي دون حاجة إلى قانون تنظيمي أو قانون عادي أو إعلان حكومي عن فتح مستشفيين. ولا يمكن بالتالي للسلطات الحكومية أن توظف الملك في قرارات بسيطة من هذا النوع.
وإذا تم التطبيع مع مثل هذا الخطاب، فإن الذين يظنون أنهم يسدون خدمة للملك حين ينسبون إليه مثل هذا القرار، يسيئون إليه من حيث يدركون أو لا يدركون، لأن هناك الكثير من المستشفيات والبنيات الصحية الجاهزة وغير المفتوحة أمام المرضى، والإعلان الأخير يعني أن الملك هو المسؤول عن ذلك!
هذا الشعور الذي يعبّر عنه القائمون على تدبير الشأن الصحي، بكونهم ينفذون قرارات ملكية، والذي قد يكون مردّه إلى فهم خاطئ أو أعوج لتوجيهات ومبادرات ملكية، لأن الملك محمد السادس برهن في محطات ومواقف أكثر أهمية وخطورة، عن احترامه الشديد للدستور ومقتضياته الخاصة بتحديد السلطات.
عندما يقول المسؤولون الحكوميون إن طلبة الطب والصيدلة “مسيّسون”، فإن المفروض فينا أن نفهم أنهم لا يقصدون موالاة الطلبة لجهة سياسية معارضة للحكومة وأحزابها. فهذه الحكومة أصلا ليست سياسية ولا يهمها ما يقوله أو يفعله معارضوها، لكونها تستمد قوتها وسبب وجودها من مصادر خارجة عن لعبة الأغلبية والمعارضة الكلاسيكية. علينا أن نفهم أن المسؤولين الحكوميين يشيرون إلى وجود أطراف سياسية جذرية أو قادمة من خارج المؤسسات، تدعم أو تؤجج إضرابات الطلبة.
والإشارة هنا، دون كثير لف أو دوران، لا يمكن أن تقصد سوى جماعة العدل والإحسان وبعض تيارات اليسار الجذري التي تحضر بقوة في الشارع وتسهر على تأطير بعض الاحتجاجات. والحقيقة أنه إذا كانت بعض من هذه القوى التي لا تتوفّر، تقريبا، على أي حضور داخل المؤسسات، قد تمكّنت من تعبئة وتأطير احتجاجات من هذا النوع، فإن ذلك يفترض أن يحمل الحكومة على الاستقالة والرحيل، لأنها فشلت في واحدة من أبسط المهام التي تقوم بها الحكومات والأحزاب المتمتعة بأغلبية مزعومة.
نعم للصحة بعد استراتيجي يجعلها تؤول في بعض أبعادها الكبرى إلى دائرة الاختصاص والتدخل الملكيين، وهو ما حدث بشكل واضح ومؤسساتي عندما حلّت بنا جائحة كورونا، وتابعنا جلسات العمل الرسمية التي قام بها الملك واتخذ فيها القرارات اللازمة. وتابعنا ذلك ساباق مع فيروس ايبولا… لكن التدبير اليومي والروتيني، والاختيارات التدبيرية، وفتح المستشفيات أو إغلاقها، وطرح وتنزيل القوانين والمراسيم والقرارات الوزارية، مسؤولية حكومية ولا يمكن للقائمين عليها منحها أبعاد لا أساس لها في الدستور ولا الممارسة، للتهرب من الحوار والتفاوض والتشاور، وتحمّل مسؤولية القرارات التي تعتمد.
وإذا كان هناك عقلاء ومخلصون للمغرب، دولة ومجتمعا، ممن يلجون إلى دائرة القرار المركزية، فإن من واجبهم حماية الملكية من تبعات اختيارات قد تنجح وقد تفشل، أو سياسات تثير التساؤل حول علاقتها بمصالح القطاع الخاص، المقبل بقوة على الاستثمار في المصحات والخدمات الصحية.
وزارة الصحة في طريقها إلى التفكيك والإفراغ من أي معني، بعد الشروع في إحداث مؤسسات جديدة ستشرف على التغطية الصحية وسوق الأدوية… تماما كما كان الحال مع وزارة العدل التي تم تفكيكها بتجريدها من مسؤولية الإشراف على النيابة العامة… لكن هذا لا يعفي الحكومة المسؤولة سياسيا أمام البرلمان، من عبئ وضع وتنفيذ السياسات العمومية في المجال الصحي، وتحمّل المسؤولية أمام المجتمع، بدل الاختباء وراء ستار وهمي يتم نسجه من خيوط الإشارة نحو الأعلى وتكميم الأفواه بزعم تطبيق اختيارات ملكية.
لقد كان النقاش في سنوات غابرة يجري بين الملك والمعارضة السياسية حول قائمة قصيرة بوزارات السيادة التي كان السياق الدستوري لما قبل 2011 يسمح بها، ولم يكن يوما قطاع الصحة جزءا منها.. وبالتالي فإن وزارة الصحة ليست سيادية.