محمد جليد يكتب: بنعبدلاوي.. المختار في حياة الأبدية
بعد رحيلك البارحة، هل يحق لنا اليوم أن نرثيك، بعد أن شرعتَ الوجود على الأبدية، وفتحتَ باب الخلود على مصراعيه منذ زمن بعيد؟ لماذا حكمت علينا بهذا الموت السريع؟ ترانا نستطيع الآن، بعد أن وارينا جثمانك الثرى، أن ندبج المراثي ونطرز الكلمات، تخليدا لذكراك واحتفاء بمزاياك؟ لقد صيَّرنا موتك- وخلودك أيضا- ‘عابرين في كلام عابرين’، كما يقول الشاعر محمود درويش، صديقك في الأبدية الآن. ستأبى العبارات، بعد اليوم، أن تنحت بعض الصور، حتى وإن رفضت صورك أن تفارق الذاكرة.
ما كان لك أن تدربنا على أمل الحياة، وأنت على علمٍ أن أَلَمَها، بل آلامها الكثيرة، تمضي بك مسرعة إلى الهناك. ما كان لك أن تبتسم في وجوهنا ابتساماتك الشفيفة، وأن تطرب أسماعنا بلحن رنان عزفته على أوتارنا الحساسة المترعة بمحبتك وعشقك.
ما كان لك أن تنثر الزنابق والأقاحي في كل مكان قبل رحلتك الباريسية، وأن تعلن حبك الجارف للحياة، ثم تنكث عهد هذا الحب وتترجل مهرولا عن صهوتها.
وما كان لك أن تجعلنا ننظر إلى المدى، وأن نتلهف إلى نصرك الظافر على عدوك العضال، واعدا بأن تزرع زهورا أخرى في الطريق.
يحق لنا أن نسألك، وأنت في أبديتك الآن، كما سأل سميح درويشا: لماذا ‘آثرتَ صهوةَ موتِك أفقاً’؟ ليتنا نملك الجواب الشافي بدل الدموع والبكاء الطويل.
ليت الفلسفة، ميدانك المفضل، تمدّنا بـ’الحقيقة’ الكاملة، من غير نسبيتها الكامنة والقاتلة، حول ما جعلك تدفع بنا، في وقت مبكر جدا، إلى أن نخشى على زهورك الفواحة.
ليتها تستطيع أن تجعلنا الآن قادرين على أن نحرس كل هذه الطيور التي أطلقتها في سماء ملغومة بالشكوك. هل صرتَ واثقا فعلا أننا نستطيع الآن أن نقف في وجه الطامعين في قنصها؟
آه، يا صديقنا، ثم آه! كم هي كثيرة ومتشعبة خيوط هذه الكُبّة التي تركتها بين أيدينا. أي خيط نمسك؟ وأي فتق نرتق؟ الآن فقط، ندرك أنك كنتَ تدير مناويلها بحنكة نساجات تازناخت وصبر الفيلاليات، دون تذمر أو تأفف أو كلل من كثرة الغزل والحياكة.
كانت تكفيك حكاية من هنا، أو نكتة من هناك، حتى تتحرك الخيوط داخل السدى من جديد، وتكمل نسج حلمك البهي الذي يسع الناس والأرض والوطن، ويسعنا جميعا، نحن أهلك وخلانك وأصدقاؤك قبل كل شيء.
ومع ذلك، لا بد أن نقول لك، بعد أن اخترت الهناك ورغبت في أن تجترح حياة الأبدية، إن خيوط الكبة ستبقى كما هي، وإننا سنستلها خيطا خيطا حتى يكتمل الحلم الجميل وتتحقق النهاية السعيدة.