story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

محاولة لفهم السلوك الاحتجاجي لدى جماعة الأساتذة

ص ص

استمرت فئة الأساتذة سنين طويلة بدون القيام بحركات احتجاجية وبدون تحقيق واضح لمطالبها الشرعية. كما ظهرت تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد سنة 2016 واستمرت مدة ضمن نضالات فئوية، لكن تحقيقها للمطالب كان محدوداً جداً، لكن بالتحاق فئات أخرى متضررة وبوجود ظروف اقتصادية جديدة تتعلق بالزيادة في الأسعار وبكثرة الاقتطاعات الضريبية وبوجود أوليغارشية سياسية تجمع بين المال والسلطة نجحت الحركة الاحتجاجية.
لقد أخذ الوضع المغربي أشكالاً جديدة من النضال فرضت وقعها على الحكومة مما أنزلها فوق طاولة المفاوضات. قد نجحت التنسيقيات حالياً في حين فشلت فيما فشلت فيها النقابات والأحزاب، كما أن نجاحها في المفاوضات أو فشلها مرهون بحجم الوعي السياسي وقدرتها على التفاوض. ليست المطالب المعقولة وحجم الظلم أو الضرر المتولد عن القمع من يحدد مشروعية الاحتجاجات.
لا يتعلق تحقيق المطالب في دول العالم الثالث بحجم النمو الاقتصادي ـوحجم الضرر أو حجم المردودية والإنتاج الذي يقدمه القطاع، فوجود قطاعات يعتبرها المخزن حساسة وقطاعات هامشية وقطاعات غير مهيكلة، ووجود قطاعات تعتبرها الحكومة منتجة وأخرى غير منتجة تختلف حجم المطالب وحجم الاستحقاقات. كذلك لا يتعلق الوضع في المغرب بضرورة انعكاس حجم المبيعات على الأوضاع الاجتماعية للعمال بطريقة ميكانيكية في شكل تعاقدي مسبق. لهذا ما الذي يحدد السلوك الاحتجاجي للأستاذة وما حجم المطالب التي يمكن تحقيقها؟
توزع النقاش في المغرب حول الأساتذة الذين فرض عليها التعاقد بين من يعتبر مطالبهم مشروعة ومن لا يعتبرها كذلك، ذلك أن تعاقد الأساتذة منذ البداية كان تعاقداً منصوصاً عليه ومتفقاً بين الطرفين بحكم “العقدة”، لهذا لا داعي لكل الاحتجاجات اللاحقة. لكن المطالب تختلف والسياقات وطرفا التفاوض. فدور التنسيقية والنقابة هي المطالبة المستمرة بتحسين الأوضاع، ودور الإدارة والحكومة رفض كل هذه المطالب، لكن التفاوض والصراع السياسي وموازين القوى هي من يحدد حجم المكاسب ومستوى التغيرات.
نقدم في هذا المقال بعضاً من الأطروحات العلمية التي حاولت فهم السلوك الاحتجاجي لدى الفرد بين الفعل العقلاني الفردي والفعل الجمعي الجماهيري، من خلالها يمكن فهم نجاح التنسيقات والنقابات والحركات الاحتجاجية عموماً أو فشلها. فالسلوك النضالي والسياسي للعامل يختلف بين الوعي الطبقي ووجود المصلحة، وبين حجم الحرية والقمع والسلطوية، وبين تأطير النقابات والأحزاب.
تربط أطروحة الفعل العقلاني الفردي لدى ماكس فيبر بالطريقة التي طورها ريمون بودون الاحتجاج بحجم وعي المواطن بالمصلحة الخاصة، فالفائدة والمصلحة هو من يحدد سلوك الفرد. وفي الفعل الاحتجاجي دائماً ما يوجد مصلحة مرتقبة يصبو الموظف والعامل للحصول عليها. لكن هذا التفسير للسلوك الاحتجاجي لا يراعي الظروف السياسية والاجتماعية والتأطير وتأثير الرأي العام على العامل.
أما أطروحة الفعل الجمعي بالطريقة التي نظر لها غوسطاف لوبن فهي تربط السلوك الاحتجاجي بروح الجمهور؛ كيف ما كانت نوعية العمال وكيف ما كانت ثقافتهم ونمط حياتهم ودرجاتهم في العمل، وكيفما كانت اهتماماتهم وذكاؤهم، فإن مجرد تحويلهم إلى جمهور يصبحون يتحركون بطريقة مختلفة عن الطريقة التي كان يتحرك بها كل فرد منهم منعزل عن الآخرين، أي بمجرد تحول الأفراد المختلفين إلى جمهور، بسبب العدوى التي تنتشر بينهم، تجعلهم يشعرون ويتصرفون بطريقة جماعية.
لكن هذه الاطروحة لا تجيب عن الطريقة التي يتم بها تأسيس الجماهير، ربما هو وجود الزعيم المفوه والخطاب السياسي الرصين الذي يحول الناس العاديين المختلفين إلى جمهور منسجم. كما أن هذه الأطروحة تتحدث عن البدايات الأولى للحركات الاحتجاجية قبل أن تتحول إلى مشاريع سياسية وتنظيمات مثقلة بتحديات الواقع.
من الأطروحات أيضا التي حاولت فهم السلوك الاحتجاجي ما جاءت به مدرسة شيكاغو حول وجود الأهداف المشتركة، فالعامل هو شخص واع ومسؤول عن أفعاله ويقدر حجم الخسائل وموازين القوى التي ينبثق عنها مستوى التفاوض. وبالتالي الذي يجمع الناس هي المصلحة المشتركة والحس الجمعي. هي أطروحة تختلف عن سيكولوجيا الجماهير بكون الجماهير عاقلة تستطيع أن تحقق مطالبها بدون تأثيرات جانبية.
إلا أن كارل ماركس يرى أن قيام الثورة ونجاحها يتحدد بحجم الحرمان وحجم الانتظارات المحفزة للناس، وفق تقدم اقتصادي واضح مرتقب مع غياب للتنمية، ثم وجود القمع والاستبداد. فالذي يولد الانفجار هو حجم الضغط الموجود، بمعنى أن الحرمان الموجود بين تطلعات الفاعلين الاجتماعيين وواقعهم المعيش هو الذي يؤدي لظهور حركات احتجاجية جماهيرية. لكن أهم شيء لدى كارل ماركس محدد للاحتجاج هو الشعور بالحرمان، بمعنى أن الموَلد للاحتجاج ليس الحرمان نفسه بل الشعور به، وهو شعور لا يمكن استشعاره إلا بحجم الوعي الطبقي والمستوى التعليمي وحجم التأطير السياسي.
لهذا تعد الطبقة المتوسطة أكثر الطبقات احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية، من جهة لأنها قريبة من الطبقة الفقيرة، ومن جهة ثانية أنها تطل على الطبقة البرجوازية وترى حجم المحفزات ومستوى الرفاهية، ثم هي أكثر وعياً بالمفاوضات. في هذا الصدد تحاول الدولة المغربية القضاء على الطبقة المتوسطة بإنزال فئات كثيرة، منهم الأساتذة وتحويلهم لطبقة فقيرة. لكن مستوى الوعي المتبقي لدى الأستاذة وحجم التأطير يجعلهم يحاولون البقاء ضمن الطبقة المتوسطة. ينتمي الأساتذة إلى الطبقة المتوسطة التي حملت مشعل التغيير في محطات كثيرة من تاريخ المغرب، خصوصاً الحراك العربي سنة 2011، لهذا تأتي تصفيات المخزن لكل جسم نابض.
بين حجم الحوافز المشجعة على الاحتجاج وحجم القمع الموجود؛ يمكن مناقشة حالة الموظف الذي يستفيد من الزيادة دون قيامه بالإضراب، يسميه بعض الباحثين “الراكب بالمجان”، هو موظف استفاد من المكتسبات دون القيام بأي تضحية. قد نجد ضمن تنسيقيات الأساتذة ركاب كثر سيتفيدون أكثر من حركة الفئة الكبيرة المشكلة للجماهير، فئات تشكل نسب ضعيفة مقارنة مع أساتذة الابتدائي أو الأساتذة الذي فرض عليهم التعاقد، هاتين الفئتين الأكثر تضرراً والأقل حصولاً على المطالب لحد الساعة رغم أنها تشكل الأغلبية.
قد نتحدث ضمن هذا الوضع عن “فرض الكفاية”، وهو النضال الذي تقوم به فئة قليلة يؤدي ثماره دون أن تقوم كل الفئات، لكن في حالة غياب الحد الأدنى من النضال يكون النضال واجباً، “فرض عين” على الجميع. لكن ضمن هذا التقسيم الفقهي لا نستطيع أن نضع حدوداً واضحة بين الكفاية والعين. قد يسعفنا مصطلح المناضل في القيام بهذا التقسيم، حيث المناضل هو من يتزعم النضال ويضحي أكثر، يقوم بالنيابة عن باقي العمال بتحقيق المطالب. لكن المناضل عليه أن يستفيد من شيء ما قد لا يكون مادياً، كأن يكون هو الإمام والقائد والزعيم، فيحظى بالشهرة والمكانة، كما يمكن له الاستفادة من الجماهير وتحويلهم لمشروع سياسي. لكن ضمن التنسيقيات يغيب الزعيم ويحضر فقط المنسق. وهو التحدي الذي يعترض التنسيقيات إبان الحوار الاجتماعي، لأنها لن تستطيع القيام بالتفاوض الذي يتعلق بتقديم بعض التنازلات لكسب بعض المطالب، فتكون التنسيقية حركة جماهيرية بالتعبير الذي قدمه غوسطاف لوبن، لا يستطيع قائد أن يحتويها وقد تجرف أي شيء يمر في طريقها.
يحفز الاستمرار في النضال وجود مؤشرات على استجابة الحكومة لبعض المطالب وبداية الانفراج وفتح باب الحوار الذي كان موصداً لسنين. لكن رغم ذلك ورغم تراجع مكانة الأحزاب والنقابات وتصاعد ما يسمى بـ”حمى التنسيقيات”، الذي تنتشر في قطاعات عديدة والمولدة لحركات احتجاجية فئوية كثيرة؛ فإن الحزب والنقابة هما من يمكن لهما التفاوض لتحقيق مطالب معقولة. وأحيانا عندما يفشل الجميع وتسود حالة من الاحتقان، تتدخل أعلى سلطة في البلد لإيجاد تسوية معينة، وأحياناً يتم تطبيق تقنية التحكيم لرد الفاعلين لنقطة الصفر أو تحقيق بعض المطالب البسيطة. في إضرابات مناجم الفوسفاط باليوسفية التي عرفت اعتقالات كثيرة، كانت الإدارة تميز المتظاهرين بين من هو مع الملك ومن هو ضد الملك، ومن استمر في النضال فهو ضد الملك.
تنجح التنسيقات عندما لا يجد الإنسان شيئا يفقده، حيث ادماج العامل والموظف متعلق بحجم المكتسبات التي يحاول الحفاظ عليها ضمن مساره العملي الطويل، ويكون التفاوض بين الإدارة والنقابة مراعياً لحجم الإدماج، تقدم مؤسسات كثيرة قروضاً ومكاسب للعامل تجعله متورطاً أكثر. بتعبير إريك هوفر في كتابه “المؤمن الصادق” أن الإنسان المحبط يجد عيباً في كل شيء حوله، وينسب كل مشكلاته إلا فساد عالمه، كما يتوق إلى صهر نفسه المحبطة في كيان نقي جديد. لهذا لم يعد لدى الأساتذة ما يخسرونه في معركة طرفاها غير متساويين وحقوق ضائعة منذ سنين. بقراءة في إريك هوفر تكون التنسيقية حركة احتجاجية ما قبل نقابية، تقدم لأتباعها استعدادا للموت وانحيازا إلى العمل الجماعي، تولد الحماسة والتطرف والكراهية وعدم التسامح، قادرة على تفجير طاقات قوية من الحراك لم تستطع الهياكل الحزبية أو النقابية استيعابها.
يمكن أن نعتبر الوضع في المغرب ما قبل الدولة فنسقط عليه سيكولوجيا الجماهير التي تتأسس بسواعد “الغوغاء” على فكرة بسيطة يتم الايمان بها والعمل على إنجاحها، وبعد أن تتمكن الحركة وتستقر تستغني عن المناضلين وتبدأ في استقطاب الأطر والنخبة والعلماء المنظرين لمرحلة جديدة وتشجع على الصبر والطاعة، بعد أن كانت تدعوا إلى الأعمال الفورية والعفوية. لكن هذه الدورة الاجتماعية بتعبير ابن خلدون لم تكتمل في المغرب، بين دولة شمولية تفرض سلطتها على الجميع، وبين حركات احتجاجية تحاول تحقيق بعض المكتسباتها الفئوية، لكن دون تحقيق لتعاقد اجتماعي عام ينصف كل الفئات المتضررة.