story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

لعبة الأفاعي مع الجزائر

ص ص

تؤكد الأحداث والتطورات الأخيرة، أن العلاقات المغربية الجزائرية انتقلت وبشكل نهائي من طابع وقواعد اشتباك ظلت قائمة منذ التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار عقب اندلاع حرب الرمال سنة 1963.
هذا الانتقال تم نحو الأسوأ بطبيعة الحال، من حيث درجة التوتر والدفع بخطوط جبهات المواجهة من الطرفين، ودخول مناطق نزاع اتفق الطرفان سابقا، إما صراحة أو ضمنيا، على تحييدها في السابق.
وهو أيضا انتقال حتمي، لأن الطبيعة تأبى الفراغ، ولأن الجمود ينعكس سلبا على مصالح عديدة، إن لم يكمن الجزء الخاص بشعوب المنطقة فيها مهما، فإن مصالح أخرى، دولية بالخصوص، تتضرر وتتحرك بالتالي، كما تتحرك الصفائح التكتونية تحت القارات وتزلزلها.
ثم هو انتقال يمكن أن يفضي إلى اختراق إيجابي، مثلما يمكن أن يؤدي إلى اشتعال الحرب والفوضى. أي أن المنطقة باتت مجبرة على رفع مستوى المخاطرة وهي تدبّر هذه العلاقة المأزومة، إما “ربحة ولا دبحة” كما يقول التعبير الدارج.
ويصعب تحديد النقطة التي بدأ عندها هذا التحوّل بشكل دقيق في الزمن، لكن يمكن اعتبار واقعة احتلال وإغلاق مبعر الكركرات الحدودي بين المغرب موريتانيا، بواسطة مسلحين تابعين، ظاهريا، لجبهة البوليساريو، وخاضعين عمليا لسيطرة الجزائر، ثم نجاح المغرب في القيام بتدخل عسكري جراحي، مؤشرا دالا على تغيّر قواعد الاشتباك ودخول الصراع المرير بين الدولتين مرحلة جديدة، هذه أبرز تجلياتها:

  1. حركة نشيطة غير مسبوقة وتململ في الحدود الترابية للمنطقة، بداية من الكركرات. على اعتبار أن الجدار الرملي الفاصل بين المنطقة العازلة في الصحراء وباقي التراب المغربي هو خط تماس عملي بين مجالي تحر ونشاط كل من المغرب والجزائر، ودخول السلاح الجوي النوعي الذي اكتسبه المغرب على خط هذا التململ الحدودي، بجعل المجال الواقع شرق الجدار الرملي في مرمى النيران المغربية، ومبادرة الجزائر إلى تنفيذ جزء من اتفاقية ترسيم الحدود وسحب واحات كاملة من يد مزارعين مغاربة قرب فكيك والشروع في استغلال منجم تندوف، ولعبة المعابر البرية الجديدة مع موريتانيا، من الجانبين الجزائري والمغربي…
  2. تغيير قواعد الاشتباك على صعيد التحالفات والتحركات الدولية، حيث كان المغرب في ظل تنامي التحرشات العسكرية الجزائرية عقب الحراك الشعبي الذي عاشته البلاد بدءا من فبراير 2019 تحت شعار “يتنحاو كاع”، مجبرا على التقدم خطوة كبيرة نحو الأمام في تحالفه مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما تطوّر في سياق ما بعد عملية الكركرات إلى استدعاء علني ورسمي للعنصر الإسرائيلي وتورط في تبعاته الأخلاقية والرمزية، فيما انخرطت الجزائر أكثر في علاقاتها مع الدب الروسي، وتورطت في الاقتحام الذي قامت به ميليشيا فاغنر لمالي، وهو ما يبدو أنه انقلب على الجزائر نفسها حاليا…
  3. دخل البلدان في سباق جديد نحو توظيف أوراق الإشكالات السياسية الداخلية المرتبطة بخصوصيات بعض المناطق داخل هذا البلد أو ذاك. وبعد الخطوة التي أراد من خلالها المغرب “شد أذن” الجزائر عبد التلويح بورقة المطالب السياسية التي يحملها بعض المنحدرين من منطقة القبايل الجزائرية، في سياق جدال ومواجهة كلامية داخل إحدى لجان الجمعية العامة للأمم المتحدة، أقدمت الجزائر على حماقة جديدة تتمثل في دعم واحتضان ما يوصف بالحزب “الانفصالي” في الريف من خلال بعض الأشخاص المقيمين في أوربا، ومن ثم استدعاؤهم وتخصيصهم بتمثيلية رسمية في الجزائر العاصمة، افتتحت على نغمات “نشيد” و”علم”…
  4. تصعيد كبير للوضع العسكري، باستمرار سباق التسلح وقيام الجانبين بتعزيز تموقعهما وطبيعة انتشارهما في الحدود البرية، بل وقيام الجزائر بمناورات عسكرية ضخمة غير بعيد عن الأراضي المغربية، في مقابل وصول مناورات الأسد الإفريقي المغربية-الأمريكية إلي مناطق تطل على الجانب الجزائري…
  5. أما الفصل الجديد الذي تعيشه علاقات البلدين في هذا السياق، فيتمثل في خطوتي استرجاع كل منهما لممتلكات عقارية في ملكية البعثة الدبلوماسية للطرف الآخر. كانت الجزائر سباقة منذ نحو عامين إلى نزع ملكية عقارات كانت تحوزها السفارة المغربية لديها، في سياق كان يتسم بتصعيد أحادي الجانب عبر قطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق الأجواء وسحب للسفير… وتمت الخطوة الجزائرية دون تقديم حتى تعويض عن نزع الملكية، بزعم أن تلك الممتلكات كانت هبة من الدولة الجزائرية، ليأتي الرد المغربي مؤخرا بفتح رسمي لمسطرة نزع الملكية، التي تتقضي دفع مقابل مالي، مع تقديم مبررات مماثلة، أي أن المغرب قدم عقارات للسفارة الجزائرية، كهبة، علما أن مسطرة نزع الملكية قديمة وعرفت اتصالات رسمية سابقة دون أن تثير تحفظ الجانب الجزائري.
    إذا أضفنا إلى ما سبق عمليات الاستهداف المباشر التي قامت بها القوات العسكرية الجزائرية لمواطنين مغاربة في مياه المنطقة الحدودية المتوسطية بين البلدين، ومعارك الرموز والثقافة والهوية التي همّت الزليج والكسكس والموسيقى… فإننا نكون أمام تحوّل شامل في قواعد الاشتباك، على أساس أن الاشتباك أمر حتمي في ظل المعطيات القائمة، ونحن في مرحلة مواجهة عالية المخاطر.
    هذا التشخيص الموضوعي لتطور الأوضاع في حدود كان يفترض، حسب ما عبّر عنه الملك الراحل الحسن الثاني في فترة تقديمه تنازلات ترابية، أن ترسم كي يتم تجاوزها ببناء جسور اقتصادية واجتماعية لن تبقي لها أي معنى في الواقع، لا يفيد وضع الجانبين في كفة واحدة. الأمر هنا لا يتعلق بانحياز للذات الوطنية على حساب الآخر، بل لأن المغرب يظل في موقف دفاع شرعي عن النفس بما أن الخلاف يرتبط أساسا بسيادته على نصف ترابه، في مقابل مخاوف جزائرية من أطماع مغربية مزعومة في الصحراء الوسطى.
    لكن ما ينبغي أن يعيه الجميع، هنا وهناك، هو أننا دخلنا مرحلة ملاعبة الأفاعي، ولعبة الأفاعي غالبا ما تنتهي بلدغة… الله يحفظ.