story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

لطيفة البوحسيني تكتب: مدونة الأسرة.. سياقات الإصلاح ومنهجيته منذ 1958

ص ص

بعد حصول المغرب على الاستقلال، وفي سيرورة بناء الدولة الوطنية، ونظرا لأهميته في تأطير العلاقات داخل الأسرة، ومن بين أولى القوانين تم اعتماد مدونة الأحوال الشخصية التي صدرت بخمسة ظهائر أولها في 22 نونبر 1957 وآخرها في 3 أبريل1958. بعد أن أعدت وزارة العدل حينها مشروعا، سلّمته للجنة المُعينة من طرف الملك محمد الخامس بظهير 19 غشت 1957 من أجل إدخال بعض التعديلات عليه. والجدير بالذكر أن هذه اللجنة كانت مكونة من العلماء، على رأسها العالم والزعيم السياسي علال الفاسي، الذي أسندت إليه مسؤولية المقرر.

كان واضحا، سواء في خطاب الملك محمد الخامس أو في خطاب مولاي الحسن، ولي العهد حينها، الحرص على اعتماد المذهب المالكي مع اعتبار الأصول العامة وخصوصا المصلحة المرسلة والحرص على “إظهار الثروة الفقهية بالمظهر الحقيقي لها بعيدة عما علق بها من تأويلات عقيمة وعادات فاسدة أصبحت بحكم تداولها مع تقادم العهد من مضافات الشريعة الإسلامية ومعدودة منها، وقد أخر بعض تلك المضافات تطور البلاد ورقيها”.

وإذا كان اعتماد نص مدونة الأحوال الشخصية يعتبر في حد ذاته قرارا مهما، فالملاحظ أنه وبالنظر لعدم وجود مؤسسات، فقد أُسند العمل إلى لجنة ملكية ولم يمر عبر المجلس الوطني الاستشاري (1956-1959) الذي كانت له الصفة الاستشارية ولم يكن منتخبا. وللإشارة، فقد اعتمد أول دستور سنة 1962 وتم تنظيم أول انتخابات سنة 1963.

كانت هذه هي اللحظة الأولى التي أسست لنص قانوني أعاد إنتاج نفس العلاقات السائدة في المجتمع، والقائمة على نوع من التراتبية التي لا تعترف بالمساهمة الفعلية للنساء، سواء في إطار أدوار الرعاية، أو فيما يدخل في باب الاقتصاد الأسري أو المنزلي. وعلى الرغم من أن علال الفاسي تميّز باعتماده على الاجتهاد، وأبان عن انفتاحه في الفصل الذي خصصه لقضايا الأسرة في كتابه “النقد الذاتي”، فالملاحظ أن أثر ذلك لم يظهر على النص المعتمد. يمكن إيعاز ذلك، من جهة إلى ميزان القوة السياسي الذي كان أكثر ميلا لما جاء في المدونة، وارتباطا بذلك إلى ضعف الأصوات المُنادية حينها بشكل صريح بالمساواة.

اللحظة الثانية – 1993

مر أزيد من ثلاثة عقود على اعتماد مدونة الأحوال الشخصية دون أن تعرف أدنى مراجعة، وأصبحت المشاكل المترتبة عن بعض مقتضياتها تتضاعف، وباءت مختلف المحاولات الرامية إلى الإصلاح، كتلك المتعلقة بالطلاق، بالفشل. مرد ذلك إلى عدم توفر ما يكفي من الإرادة لدى الفاعلين السياسيين (الحكومة والبرلمان) لتحمل مسؤوليتهم السياسية بخصوص قانون يؤطر العلاقات داخل الأسرة، بدعوى كونه يدخل ضمن اختصاصات أمير المؤمنين.
في الحقيقة، وإذا استثنينا غياب الجرأة، لا شيء كان يمنع السياسيين الرسميين من المبادرة لإيجاد مخرج لمعضلة المدونة. ويمكن القول بأن مقابل هذا العجز، ستعرف الساحة بروز الأصوات التي ستدافع بشكل واضح عن ضرورة الإصلاح.
دون الدخول في التفاصيل، نود هنا التذكير بالسياق الذي وقع فيه أول تعديل، مع التركيز على عنصرين اثنين:
العنصر الأول، هو السياق السياسي الذي كان مطبوعا بالتفاوض على الإصلاح الدستوري بين مكونات الكتلة الديمقراطية والمؤسسة الملكية من أجل “انتقال ديمقراطي” وإصلاحات سياسية تمس طبيعة النظام السياسي. تمخض هذا التفاوض عن اعتماد دستور 1992، وتنظيم انتخابات، اعتبرت غير شفافة وشابها تزوير أدى إلى رفضها من جانب أهم مكونات الكتلة، وبالتالي عدم تحقيق الهدف المركزي من التفاوض. ومع ذلك، شكل هذا السياق فرصة لطرح مطلب الإصلاح.

العنصر الثاني، هو المرتبط بظهور عدد من الجمعيات الحقوقية والنسائية التي انتهزت فرصة النقاش حول الإصلاح الدستوري، لطرح مطالبها. الأمر الذي يعكس، من جهة نوعا من التحول الذي أصبح يمس التعبيرات السياسية والمدنية، ومن جهة أخرى دخول النساء بأنفسهن حلبة الترافع لتقديم مطالبهن بخصوص قانون يهم النساء والرجال معا، ولكنهن معنيات به بالدرجة الأولى لكونه، حسب منظورهن، قانون قائم على التمييز ضدهن. كانت الحجة المركزية التي أطّرت مطلب الجمعيات النسائية حينها هي مناهضة التمييز الذي يخترق مختلف بنود المدونة وكذا التناقض بين النص القانوني والواقع الفعلي للأسر.

هذه بعض العناصر التي تُذكر بالسياق الذي سمح بمراجعة المدونة. تنبغي الإشارة أنه وبعد نقاش عمومي وسجال بين المدافعين عن الإصلاح وبين الرافضين له، أعلن الملك الحسن الثاني نيته للقيام بمراجعة المدونة. في هذا الإطار، تم تعيين لجنة استشارية مكونة أساسا من العلماء ومن بعض المتخصصين في القانون، كما أُسندت رئاسة اللجنة إلى عبد الهادي بوطالب، وهو فقيه دستوري ورجل سياسي ومستشار ملكي، وعالم معروف بانفتاحه على الفكر المقاصدي.

بعد أقل من سنة على تعيين اللجنة التي استقبلت مذكرات مختلف الفاعلين، أُعلن عن التعديلات التي مست بعض بنود المدونة. غير أن النتيجة في المُحصلة كانت مُخيبة لانتظارات الحركة النسائية التي سجلت نقطة إيجابية واحدة، ألا وهي رفع طابع القداسة على نص القانون. وحتى وإن ظل ملف إصلاح المدونة بين أيدي أمير المؤمنين وحتى وإن اعتُبرت المراجعة جد محدودة، فإن ما ينبغي التنويه به، هو نجاح الحركة النسائية في طرح إصلاح المدونة كرهان سياسي، يتطلب التعاطي معه من طرف الفاعلين السياسيين وتحمل مسؤوليتهم بخصوصه والكف عن اعتباره خارج اختصاصاتهم.

اللحظة الثالثة – سنة 2003

مع وصول حكومة التناوب (أبريل 1998) بعد الإصلاح الدستوري الثاني سنة 1996، تم تقديم مقترحات لإصلاح مدونة الأحوال الشخصية في إطار مشروع ضم عددا من المجالات، سمي بمشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية. وكانت تلك المرة الأولى التي ستبادر الحكومة في شخص كاتب الدولة في الرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة (محمد سعيد السعدي) إلى تقديم مقترحات لإصلاح مدونة الأحوال الشخصية، غير أنه لاقى معارضة من طرف مختلف المكونات التي لم تكن تنظر بعين الرضى للمقترحات الخاصة بالمدونة.

أدى هذا إلى سجال ونقاش عمومي واسع، تزايدت حدّته بعد وفاة الحسن الثاني في يوليوز 1999. انتظم المدافعون كما المناهضين في إطارات مستقلة، وتواجهوا لأزيد من ستة أشهر، شكّلت فرصة لعرض الحجج والحجج المضادة. تجاوز النقاش حدود النص القانوني، ليتسع إلى المرجعية، ومنها إلى المشاريع المجتمعية التي حملت عناوين من قبيل: الحداثة ضد التقليد. كما أنه تجاوز حدود الجمعيات النسائية ليصبح “خصاما” بين التيارات والأحزاب السياسية (يسار/إسلاميين). وبغض النظر عن أهمية النقاش، فإن ما ينبغي التذكير به أن هذه المرحلة تميزت بنوع من الانفتاح السياسي والحقوقي (إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين) والاحترام النسبي لحرية التعبير (صحافة مستقلة وتزايد عدد الأحزاب السياسية والجمعيات). وهي عناصر لها أهميتها فيما يتعلق بسيرورة الانتقال وتوفر شروط التعبير عن تعددية التيارات والآراء.

علاقة بالمشروع الحكومي، ينبغي التذكير بأن تملص عدد من أحزاب الأغلبية حينها من تحمل المسؤولية، خصوصا في ظل احتدام الجدل بين المعارضين والمؤيدين، والتعبير الواضح عن رفض مشروع كتابة الدولة من طرف وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، بالإضافة إلى عدم تمكن الوزير الأول (عبد الرحمن اليوسفي) من إيجاد صيغة توافقية، تعالت بعض الأصوات مُطالبة الملك بالتدخل عبر آلية التحكيم الملكي، وهو ما سيتم يوم 27 أبريل سنة 2001 عبر الإعلان عن تشكيل لجنة استشارية أُنيطت رئاستها بإدريس الضحاك (فقيه دستوري) ثم فيما بعد امحمد بوستة (شخصية سياسية).

كما ضمت اللجنة في صفوفها إضافة إلى العلماء والقضاة، تخصصات مختلفة، كعلم الاجتماع والطب. والأهم من ذلك، ولأول مرة تم تعيين ثلاث نساء في سابقة لها أكثر من دلالة. اشتغلت اللجنة لأزيد من سنتين، واستقبلت عددا كبيرا من المذكرات المعبرة عن مختلف المدارس والمشارب والتيارات التي تخترق المجتمع. تكلل عملها بمشروع تم الإعلان عن مضامينه يوم 10 أكتوبر 2003 من طرف الملك، إضافة إلى الإعلان عن قرار إحالته إلى البرلمان للبث والحسم النهائي فيه من طرف نواب الأمة.

اعتبرت الحركة النسائية إصلاح مدونة الأسرة خطوة جد متقدمة، من شأن احترام روح مضامينها لحظة التطبيق أن ينصف النساء ويحقق نوعا من التوازن الأسري. لكن 20 سنة بعد اعتمادها، ظهرت الكثير من الهفوات، كما أن عددا من المقتضيات أصبحت متجاوزة بحكم التحولات التي يشهدها الواقع. وهو ما جعل الحركة النسائية تطالب مرة أخرى بالقيام بإصلاحات جديدة.

في خطاب العرش ليوليوز 2022، أعلن الملك عن ضرورة التصدي للإصلاح، وتم فيما بعد تنصيب لجنة لاستقبال المذكرات وتقديم مشروع، الذي من المحتمل أن يُحال على المؤسسة البرلمانية للبث النهائي فيه.

أهمية الديناميات الاجتماعية

نود ختاما الإشارة إلى أن قانون الأحوال الشخصية، ومنذ أول تعديل له سنة 1993، أصبح يخضع لدينامية المجتمع ولميزان القوة السياسي، ولمدى استعداد الفاعلين السياسيين لطرحه كلما دعت الضرورة ذلك.

فإذا كان من الناحية المنهجية، لازال الملك هو من يتخذ المبادرة بخصوص قرار الإصلاح، وهو من يقوم بتعيين أعضاء اللجنة المكلفة بإعداد المشروع، الأمر الذي يعود بالدرجة الأولى إلى غياب تفاعل الحكومة وعدم الاهتمام بالأصوات المطالبة بمراجعة عدد من المقتضيات، فقد لوحظ مع ذلك نوع من التطور، سواء من حيث تشكيلة اللجنة أو من حيث مآلات النتائج التي يسفر عليها عملها.

لقد رأينا أن رئاسة اللجنة كانت تناط بشخصية لها تجربة وحنكة سياسية وقدرة تفاوضية (علال الفاسي، عبد الهادي بوطالب، امحمد بوستة)، كما لاحظنا كيف انتقل تكوينها من “بروفيلات” الفقهاء والعلماء (1957) إلى المتخصصين في المهن القانونية، من قضاء وباحثين في القانون وخبراء (1993)، ثم فيما بعد الانفتاح على اختصاصات أخرى كالطب وعلم الاجتماع، (2003). أما بالنسبة للتعديل الجاري اليوم، فقد أنيطت مهمته بلجنة مؤسساتية، حيث الأعضاء متواجدون بصفتهم المؤسساتية (وزارة العدل، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ورئاسة النيابة العامة، المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة).

كما أن إحالة المشروع على البرلمان للحسم فيه سنة 2004، شكل خطوة جد هامة في سيرورة الانتقال بهذا القانون إلى المؤسسة التشريعية ومن تم إلى التداول حوله بين ممثلي المجتمع، حسب مصالحهم ومرجعياتهم وقدراتهم الحجاجية، وخصوصا حسب فعاليتهم السياسية، كما يقتضيها التدافع الديمقراطي.

من هنا تنبغي الإشارة إلى أن هذا القانون، كباقي القوانين، يحتاج إلى دينامية مجتمعية وتفاعل سياسي واستعداد لإخضاعه للآليات الديمقراطية. عجز أو ضعف الفاعلين المتشبثين بهذه الآليات لا يمكن إلا أن يؤثر في مسار هذا القانون، كما أن درجة التفاعل ومهما كانت حدة الاختلاف وحتى تناقض المرجعيات بخصوصه، من شأنها أن تقوي مسار البناء الديمقراطي.