story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

كبّسوا ولا تبالوا!

ص ص

حسنا فعلت الحكومة، بوزيريها في العدل والتواصل، حين أغلقت الباب أمام الأصوات الناعقة بالمنع والتقييد في حق بعض المنصات الرقمية الجديدة التي يقبل عليها الشباب، وفي مقدمتها منصة “تيك توك” الصينية.
لا أظن، بل وأستبعد، أن تكون الحكومة قد اعتنقت هذا الموقف دفاعا منها عن الحرية. والوزيران المعنيان لم يقولا ذلك في جميع الأحوال، بل بررا اعتراضهما على المطالب المتزايدة بمنع هذه المنصات، بصعوبات تقنية واقتصادية وقانونية دولية. بل إن ما يتسرّب من قاعات “طبخ” القرارات والاختيارات التشريعية، منذ بضعة أشهر، يحمل على الخوف من كثرة الطلب على الخيارات القمعية في مواجهة الأشكال والقوالب والقنوات الجديدة للتعبير.
التقيت هذا الأسبوع في أحد أروقة المعرض الدولي للنشر والكتاب، شخصية مسؤولة سامية لها دراية واهتمام كبيرين بهذا المجال، وعبّرت لي عن اندهاشها لكثرة تعبير الأطفال في بعض الورشات والأنشطة التي يعرفها المعرض، عن حاجتهم إلى “الحماية” من مخاطر هذه المنصات الجديدة، وهو مؤشر ايجابي عن بداية انتشار ثقافة إعلامية جديدة تستحضر سلبيات هذه المنصات والشبكات مثلما تستمتع بإيجابياتها الكثيرة.
لكن المثير القلق والخوف في التطوّر الحاصل، هو إفراط المسؤولين والباحثين والمهنيين في التخويف من هذه المنصات، لدرجة بات هناك طلب كبير وسافر على اللجوء إلى وسائل قمعية وتكميم الأفواه، بمبرر الحماية ودفع المخاطر الأمنية والاجتماعية والتربوية لهذه المنصات.
السادة البرلمانيون الذين يفترض فيهم أن يكونوا في الصفوف الأمامية للدفاع عن الحقوق والحريات، وفي مقدمتها الحق في التعبير الحر، المكفول لجميع الناس دوليا ووطنيا، أصبحوا في الشهور الأخيرة كطفل اكتشف لعبة جديدة وانغمس فيها دون أن يسمح لنفسه بالاعتدال أو البقاء في حدود اللعب “على قد النفع”.
لغة الحظر والمنع والتجريم تنتمي إلى قاموس الشمولية وفرض الرأى الواحد، ولا يمكن اللجوء إليها إلا استثناء وفي الحدود التي بمكن تبريرها والدفاع عنها أمام القضاء، عدا ذلك، الأصل في جميع أشكال التعبيرات هو الحرية ولا حق لأحد في فرض ذوق معيّن أو وصم تعبيرات أخري بالتفاهة أو التسطيح.
لا أحد ينكر أو يجادل في وجود انعكاسات سلبية لمنصات الشبكات الاجتماعية الجديدة، لكن على “الحيّاحة” الذين لا يرون خطرا غير “تيك توك”، أن يخبرونا لماذا يستهدفون هذه المنصة فقط دون غيرها؟ وكيف ثبت لديهم أنها أكثر خطورة وتهديدا من المنصات الأمريكية؟ ولا أين لاحظوا أن “تيك توك” تورّط في بيع قواعد بيانات المستخدمين وتسخيرها لوكالات المخابرات وتسهيل التأثير في نوايا التصويت والتلاعب بالانتخابات وتوجيه الرأي العام الداخلي للدول دون علمها؟
لا أفهم لماذا يصرّ البعض على التصرّف كما لو أننا أول أمة تكتشف هذه الظواهر والتقنيات الجديدة، ويجبروننا على المرور عبر المرحلة البدائية والمتخلفة لاستعمال أدوات المنع والتجريم.
لا توجد دولة واحدة في العالم، خارج خانة الدول الشمولية والمنغلقة كليا، استطاعت أو نجحت في منع هذه المنصات الجديدة، وذلك أولا وبكل بساطة يعني المساس بحقوق إنسانية راسخة ولا رجعة فيها، مثل حرية الرأي والتعبير، ثم ثانيا لأن هذا غير ممكن في أية دولة تربط اقتصادها ومصالحها، جزئيا أو كليا، مع العالم الخارجي.
لننظر إلى دول الخليج العربي، التي تملك من الإمكانيات المادية ما لا يمكن حتى التفكير في مقارنته بإمكانياتنا، ومن الثقافة المحافظة ما يساوي أضعاف منسوب المحافظة في مجتمعنا المغربي، ورغم كل ما تتعرّض له من استهداف من جانب هذه المنصات الرقمية بفعل القدرة الشرائية المرتفعة لسكانها، إلا أنها لم تستطع المضي في خيار المنع الذي لوّحت به في إحدى الفترات، ليس ضد فيسبوك وتويتر وتيك توك فقط، بل حتى مع منصة ترفيهية صرفة مثل “نيتفليكس”، ولم تجد في النهاية من خيار لحماية مجتمعاتها من الآثار السلبية لهذه المنصات سوى تطوير قدراتها في إنتاج المحتوى وتقديم “مؤثرين” محليين، والعمل على نشر التربية الإعلامية، والتفاوض مع هذه المنصات لحملها على التنسيق للحد من المخاطر.
كنت قبل نحو عامين في زيارة إلى السويد في إطار تجربة تدريبية في مجال التنظيم الذاتي للصحافة، وحضرت لقاءات داخل مبنى التلفزيون العمومي السويدي، وتابعت كيف تطوّر هذه المؤسسة العمومية نفسها لتواكب جيل “تيك توك”، ليس بالمنع والتقييد والأستاذية، بل بتطوير وإنتاج محتوى موجّه إلى شباب هذه المنصات، بلغتها وأسلوبها وتقنياتها، مع العمل على تقديم خطاب مسؤول وعقلاني، بما في ذلك شرح الأحداث والوقائع السياسية… وهذا هو سبيل تحصين الذات الوطنية وحماية السيادة، وليس بخطابات التهديد والوعيد مون منصات البرلمان والندوات.
هذا الخطاب الذي بات يدمنه بعض السياسيين عندنا، والذي يشيطن منصة رقمية واحدة، هي “تيك توك”، ويصوّرها كخطر داهم على السيادة والأمن والنظام العام، هو الذي يمكن وصفه في الحقيقة بالخطاب السطحي والتافه والمنساق للدعاية الغربية، في الوقت الذي يزعم أصحابه سعيهم إلى محاربة السطحية والتفاهة.
ومن يريد فعلا حماية المغاربة من سلبيات المنصات الرقمية الجديدة، عليه أن يناضل ويترافع من أجل احترام وتفعيل الدستور في مقتضياته التي تلزم الدولة بضمان حرية الرأي والتعبير لجميع المواطنين، وتشجيع التنظيم الذاتي للصحافة، والحرص على حماية التعددية في الآراء… وهذا يمر أيضا عبر سياسات عمومية تقوي الإعلام المهني والبنّاء، العمومي منه والخاص، والكف عن تزكية واحتضان وتشجيع الإعلام المدمّر والهدّام.
الله يعطينا وجه السياسيين الذين يجدون ما يكفي من شجاعة للمطالبة بحظر تيك توك، ولا يملكون ذرة من نحاس ولا حديد لاستنكار ممارسات محلية شائعة، تقوم على التشهير والتضليل والترهيب حتى بات خروج المثقفين والحقوقيين والمناضلين الشرفاء إلى الفضاء العام أشبه بخوض حقل ألغام.
يا شباب العالم كبّسوا ولا تبالوا!