story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

صناعة (غير) ملكية

ص ص

قدم الوزير الاستقلالي في الصناعة والتجارة أمس الأربعاء 27 مارس، نسخة 2023 من التقرير الذي تصدره وزارة الصناعة حول نتائج بحث ميداني شبه سنوي، يروم تجميع الإحصائيات المتعلقة بالقطاع الصناعي في المغرب.
الوثيقة تحمل بالفعل بعض المؤشرات الإيجابية المتمثلة في تحسن عام في مستوى “التصنيع”، لكن الخطاب الذي يرافق نشر مثل هذه الوثائق، والذي يصرّ على إقحام الملك في كل صغيرة وكبيرة، بنيّة جعل الإيجابيات كلها تصب في حساب الملك، تستفز الملتقي لأنها تبدو محاولة لممارسة الوصاية على عقل الملتقي ومنعه من الشك والمساءلة والانتقاد، بما أن الأمر يتعلق باستدعاء مشترك وطني وثابت من ثوابت هذه البلاد.
الوزير رياض مزور من الكفاءات التي لا يمكن إنكار جدارتها بتولي المسؤوليات التدبيرية لما أثبته في مساره المهني الشخصي من قدرات، لكن مشكلتنا مع التكنوقراط، الذين يحملون هذه الصفة كليا أو جزئيا، هو أنهم وبمجرد ما يتولون مسؤوليات عمومية من قبيل تدبير وزارات أو مؤسسات عمومية، يفاجئوننا بالتخلي الكامل عن كل ما يبرر الحاجة إليهم في هذه المواقع، من عقلانية ونسبية ودقّة وبعد عن الأحكام المطلقة والسطحية، بل يفاجئوننا أحيانا بخطاب مغرق في الرجعية والقدرية، ما يضع كل ما راكموه في مساراتهم العلمية والمهنية، أمام علامة استفهام كبيرة.
في تصريح مقتضب أدلى به على هامش تقديم هذا التقرير الجديد، حرص الوزير على تأطير الموضوع بالإشراف الملكي على التطور الذي عرفه القطاع الصناعي في السنوات العشر الماضية، وعلى وضع ما يعتبره نتائج إيجابية في حساب “الرؤية الملكية”.
ماذا لو تبيّن بعد حين، كما وقع مع مشاريع وبرامج أخرى عديدة قدمت على أنها “ملكية”، أن ما يجري ليس بالضرورة إيجابيا أو يحقق ما يطوّر المغرب فعلا؟ ماذا عن الآثار الجانبية والانعكاسات السلبية المحتملة في أية سياسة عمومية، كأن يتبيّن مثلا أن التطور الحاصل بني على اختيارات خاطئة أو لها أضرار اجتماعية أو بيئية، أو ترهن اقتصاد البلاد بعوامل غير مأمونة المخاطر؟ هل سيخرج علينا الوزراء حينها لربط تلك الاختلالات بالإشراف والرؤية الملكيين؟
السياسات والاختيارات التدبيرية تتم وفقا للدستور والواقع المؤسساتي، عبر الحكومة التي تنبثق من انتخابات وتشتغل تحت مسؤولية رئيسها الذي يتحمّل مسؤولية اختيار الوزراء واقتراحهم وتنسيق عملهم، وهؤلاء جميعا مطالبون بتقديم الحساب وتحمل المسؤولية عما يفعلونه وتلقي الجزاء أو العقاب في نهاية ولايتهم عبر التجديد لأحزابهم في الانتخابات أو إسقاطهم واختيار من يخلفهم، أما الملك فدوره الدستوري واضح ومحفوظ ولا يوجد حوله أي خلاف يستدعي هذا الإصرار على إقحامه في كل صغيرة وكبيرة.
إذا تأملنا في التقرير الذي قدّمه الوزير رياض مزور معتقدا أنه يثبت أن “العام زين” وبالتالي ينبغي ربطه مباشرة بالملك ورؤيته، سنجد أنه وإلى جانب المعطيات الإيجابية التي يتضمنها من حيث تطور الأرقام الخاصة برقم المعاملات والقيمة المضافة وقيمة الإنتاج في القطاع الصناعي المغربي… فإنه يعطي أيضا مؤشرات سلبية تفيد بأننا لا نقوم سوى بإعادة إنتاج الوضع القائم باختلالاته وتفاوتاته ومكامن ضعفه.
التقرير يؤكد مثلا أننا وبعد أكثر من قرن من انطلاق السياسات الاستعمارية التي ركّزت على المحور الأطلسي الواقع بين طنجة والدار البيضاء، لم نقم في هذه السياسات الصناعية الجديدة سوى بتكريس هذا الوضع بما أن جهة الدار البيضاء تظل مستأثرة بالقسم الأكبر من الاستثمارات ورقم المعاملات والإنتاج الصناعي، تليها جهة طنجة، أي محطتا نهاية سير القطار فائق السرعة “الفرنسي”، والجهة الثالثة التي حققت أكبر تطور في السنوات الأخيرة، ليست سوى جهة الرباط القنيطرة، أي أن تطوّرنا الصناعي يورّطنا أكثر في خريطة المغرب النافع والمغرب المنسي.
وعندما نتأمل توزيع كل من رقم المعاملات وحجم الإنتاج والقيمة المضافة، فإننا نلاحظ كيف تحتفظ الشركات التي يفوق عمرها العشرين سنة بأكبر حصة من هذه الأرقام، أي أن النسيج الصناعي المغربي لا يتجدد ولا يتطوّر، كما تحتفظ المقاولات الكبرى بحصة الأسد، مما يعني أننا نكرس تركيز الثروة الاقتصادية في أيادي نفس الماسكين بزمامها حاليا. وحتى المجالات التي تعرف أعلى وتائر التطور والنمو، مثل صناعة السيارات وصناعة الطيران، يخبرنا التقرير أنها ترتبط برساميل أجنبية بنسب تفوق 90 في المئة، وعلى رأس تلك الرساميل نجد أصدقاءنا الفرنسيين.
حتى إذا قررنا غض الطرف عن كل هذه المعطيات، وحاولنا النظر إلى حصيلة السياسات التصنيعية الجديدة من حيث التشغيل، فإن تقرير الوزارة نفسه يخبرنا أن القطاعات الكلاسيكية التي عرفناها منذ فترة الحماية الفرنسية، مثل النسيج والصناعات الغذائية، تظل المشغل الأول لليد العاملة المغربية، مع نسبة “تأنيث” مرتفعة، لا تعني إنصاف المرأة بقدر ما تعني استغلالها بالنظر إلى التفاوتات التي تؤكدها التقارير الرسمية من حيث الأجور والارتهان لظروف عمل قاسية تعانيها المغربيات في هذه “المعامل”.
لا تعني هذه الأمثلة الطعن في الإيجابيات التي حققتها السياسات الصناعية الحديثة، ولا إنكار ما تسجله صناعة السيارات مثلا من مساهمة كبيرة في الصادرات، ولا نفي أن القيمة المضافة الصناعية تجاوزت بالفعل لأول مرة عتبة المائتي مليار درهم، لكنها تفيد أن التدبير الحكومي ينبغي أن يظل في سجل الحكومة، لأن علاقة المغاربة بالملكية لا تحتاج إلى مثل هذه الإسقاطات المتعسفة. وإلا كيف يعقل أن الخطاب الحكومي الحالي يخبرنا من جهة أن السنوات العشر الماضية كانت كارثية وخلفت إرثا سلبيا نتيجة الاختيارات التدبيرية للحكومتين السابقتين، ثم “تنسى” ذلك فجأة، ليخبرنا السيد رياض مزور أن الصناعة الوطنية عرفت “ثورة” في الفترة نفسها؟ المنطق نفسه سينطبق على الحكومة الحالية وسيجعل “الزوينة ديال الملك والخايبة ديال الحكومة”، وهو منطق ظالم وغير مفيد، سواء سابقا أو لاحقا.