story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

درس الربيع السينغالي

ص ص

افريقيا قادمة بقوة، في السياسة كما في الاقتصاد والدبلوماسية، وإذا لم تكن التحولات الكبيرة التي عرفتها العديد من دول غرب ووسط إفريقيا في الشهور الأخيرة قد أقنعتنا بذلك لاتخاذها شكل انقلابات عسكرية مريبة، فإن الخبر اليقين يأتينا اليوم من السينغال، وبكل المواصفات الديمقراطية والسلمية المطلوبة.
هذا البلد الذي كابرنا كثيرا في الماضي كي لا نعترف بتفرّده كواحة ديمقراطية، ناشئة وغير مثالية بالتأكيد، لكنها صمدت طويلا وسط محيط غارق في جميع أصناف التخلف السياسي والاقتصادي وانعدام الشروط الدنيا لمجرد إطلاق العنان للخيال كي يحلم بتحقيق التنمية بأنواعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، (هذا البلد) يعطينا اليوم درسا بليغا في انتصار إرادة الشعوب وصمود البناء المؤسساتي والدستوري أمام محاولة “انقلاب ناعم” كادت تحصل قبل أسابيع، لينقلب السحر على الساحر وتصبح سببا في وصول رجل مغمور ومتواضع إلي قصد الرئاسة محمولا فوق أكتاف شباب غاضب.
عندما كانت الانتخابات الرئاسية مقررة متم شهر فبراير الماضي، كان الشاب باسيرو ديوماي فاي يقبع في السجن رفقة زعيمه، المعارض السينغالي الشهير عثمان سونغو، بتهم جنائية لوحقا بها جراء نشاطهما السياسي، إلا أن إقدام الرئيس المنتهية ولايته، ماكي صال، على تأجيل الانتخابات بهدف التحضير أكثر للتحكم في نتائجها وتمكين رئيس وزرائه من الفوز بها ومواصلة سياساته، تسبب في غضب شعبي عارم أجبر السلطات على تقديم تنازلات وإصدار عفو سياسي عن المعارض الشاب وموظف الضرائب، باسيرو فاي، والذي تولى الترشح كبديل عن عثمان سونغو الذي فقد أهليته للترشح بعد صدور حكم بالسجن 6 أشهر في حقه، وحمل أحلام الأغلبية الساخطة من أبناء الشعب السينغالي على عاتقه.
أبلغ دروس هذا الربيع السينغالي ليست بالضرورة انتصار زعيم شاب التفّت حوله المعارضة، على بنية عميقة لدولة حاولت حماية خدّامها وإبقائهم في السلطة ضدا على إرادة الشعب، بل هو هذا الخروج الآمن لدولة محاطة بكل أسباب الوقوع في الفوضى والتناحر، وانتصار صوت الحكمة من داخل الدولة نفسها حينما تدخلت المحكمة الدستورية لكبح جماح الرئيس الموجود في السلطة، وتفعيل آليات التفاعل السلمي بما في ذلك العفو عن المعتقلين لأسباب سياسية، ومرور المرشح البديل رغم أنه قدّم كل أسباب استعداء مراكز النفوذ الاقتصادي والسياسي والأمني، في الداخل السينغال كما في الخارج
تبنى هذا الرجل في حملته الانتخابية خطابا يتوعد ب”تطهير” الحقل السياسي ومحاربة الفساد والريع السياسيين والعمل على إعادة توزيع ثروات البلاد… أي كل ما يلزم لجعل مراكز القوة والنفوذ الداخليين التي يقدمها البعض عندنا على أنها تصنع الصيف والشتاء، تناصبه العداء وتحارب من أجل عرقلة وصوله إلى الحكم، كما رفع شعار استعادة القرار السيادي للسينغال، مشيرا بشكل مباشر إلى الهيمنة الفرنسية، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، بما في ذلك الإشارة إلى إنهاء الوجود العسكري الفرنسي وتغيير العملة الوطنية… بل إن الرجل لوّح بتهديداته تجاه مصالح خارجية مركبة، حين وعد بمراجعة الاتفاقات المرتبطة باستغلال الثروات الطبيعية للبلاد، وهو ما يمس مصالح شركات أجنبية متعددة الجنسيات.
هناك درس عميق علينا كشعوب إفريقية، وتحديدا شعوب شمال إفريقيا التي تدفع حاليا ثمن ربيعها الفاشل، أخذها من أشقائنا السينغاليين، أولها أن الحلم ممكن والدكتاتورية ليست قدرا محتوما والفوضى والعنف ليست الخيار الوحيد.
لقد أصبحنا اليوم أمام شاهد جديد يبطل أوهامنا واستسلامنا أمام خيارات أحلاها مر، وها هو شعب يشبهنا في كثير من الأشياء، يقلب الطاولة على مربعات الحكم والهيمنة ويسفّه يقينياتها ويوصل شابا لم يأكل يوما من طاولة السلطة ولا شرب من معين الخارج، فهو ابن أصيل للبيئة المحلية، درس داخل السينغال وعمل في إدارتها وآمن بحقها في النهوض، وحق شعبه في العدالة والانصاف.
وهناك درس آخر للدول، مفاده أن الشعوب ما زالت قادرة على الصمود، وأن معادلات الهيمنة مهما تشعبت وأكثرت من عناصرها، المعلوم منها والمجهول، في الداخل والخارج، في معاقل السلطة والضبط الاستخباراتي والأمني والاقتصادي، لا تجرد الشعوب من ضمائرها ومن ايمانها بقدرتها على استرجاع حقوقها.
حضرت ليلة أمس لقاء ثريا احتضنته مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، حول “التفكير في الإسلام من منظور إفريقي”، وللصدفة كان هذا البعد الافريقي في العنوان ممثلا في مفكرين وأكاديميين سينغاليين، انخرطوا في حوار علمي حول الإسلام والتصوّف والتحرر من الهيمنة الاستعمارية والاستشراقية التي تجثم فوق صدور الأفارقة.
حضر وزير الأوقاف أحمد التوفيق مزاوجا بين قبعتي المؤرخ وخادم الدولة “على الطريقة الخلدونية” كما قال الأنتربولوجي يوسف بلال في اللقاء نفسه. ومثلما استحضر وزير الثقافة السابق، محمد الأشعري، في بداية اللقاء حدث الانتخابات السينغالية في كلمته التي افتتحت الأمسية، كنت بدوري أتساءل وأنا أتابع اللقاء ما إذا كانت العبقرية الاستباقية هي التي دفعت مؤسسات ثقافية فرنسية تنشط في المغرب لتشارك إلى جانب أخرى مغربية وفعاليات سينغالية، للتفكير سويا في تجديد النظرة نحو المجال الإفريقي، وتجديد الجسور معه؟ أم هي إفريقيا، كما نتصورها نحن كمجال خارجي بالنسبة إلينا، من تفرض أجندتها وتقدّم نفسها للعالم الجديد الآخذ في التشكل؟
الأكيد أن جزءا من بداية الجواب يكمن حتما في درس الربيع السينغالي.