story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

حقوق المطبّعين!

ص ص

قد يسارع البعض إلى استنكار مضمون هذا المقال انطلاقا من عنوانه. وقد يتساءل البعض الآخر: وهل للمطبّعين حقوق؟
والحقيقة أن الموضوع أعقد من أي جواب أو حكم مطلق في هذا الاتجاه أو ذاك. وإنتاج المواقف في مثل هذه القضايا المعقّدة، يحتاج إلى أكثر من مجرد الاستكانة إلى مبدأ واحد، أو ثنائية الخير والشر.
أفضل ما حصل لنا على الإطلاق في علاقة بالقضية الفلسطينية، هو هذا النقاش الذي يخوض فيه المجتمع بمختلف مكوناته. ويأتي هذا النقاش بعد أسوأ ما عشناه في ارتباط بهذه القضية الإنسانية العادلة على الإطلاق، وهو ذلك الصمت المخزي الذي أعقب توقيع المغرب للاتفاق الثلاثي.
صمت القبور هذا الذي أعقب دخول وفدين، أمريكي وإسرائيلي، إلى القصر الملكي نهاية العام 2020 لتوقيع عودة العلاقات الرسمية بين المغرب وإسرائيل، هو الكابوس الذي حررتنا منه المقاومة الفلسطينية حين قامت بخروجها البطولي ضد الاحتلال يوم 07 أكتوبر 2023.
لكن هذا النقاش ليس غاية في حد ذاته. وإلا سيصبح مجرد أداة للإلهاء وتنشيط النقاش العمومي. بينما تمضي القرارات ويتواصل الفعل في اتجاهات مرسومة ومحددة مسبقا.
أعتقد أن نقاشنا هذا أنتج ما يكفي من التراكم كي يصبح عقلنا الجماعي قادرا على التمييز بين التطبيع الرسمي والتطبيع الشعبي.
كلاهما مرفوض وممجوج ومقيت، ما لم يتم الاعتراف بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني في أرضه وسيادته وسلامة أراضيه. لكننا من منطلق الموقع الحضاري، في حكم المغلوب الذي لا تسعفه قدراته على تحقيق كل رغباته. وبالتالي يصبح من الضروري استحضار هذا التمييز الأولي.
التطبيع الرسمي يجد مبرره الوحيد في الاضطرار. أي وصول الضغط والابتزاز الدوليين إلى درجة لا يصبح معها النظام السياسي قادرا على درء التهديدات إلا بالخضوع لخطوة الارتباط بعلاقات رسمية مع إسرائيل.
هنا، لابد من توفّر العناصر التي تدعم مثل هذه الخطوة، دون أن يرقى ذلك إلى التبرير أو منح الشرعية. ثم ينبغي لهذا التطبيع الرسمي أن يقاس بميزان الذهب، حتى يكون مداه متناسبا مع ما تقتضيه الضرورة المفترضة.
أما التطبيع الشعبي، وهو الغاية الحقيقية لما يعرف باتفاقات أبرهام وهو ما تسعى إليه إسرائيل وحلفاؤها في السنوات الأخيرة، فهو جبهة الصمود التي يمكن للمجتمعات، في جميع أنحاء العالم، التخندق فيها والدفاع عنها، انتصارا لمبدأ العدالة ومفهوم الحق بمعناه الإنساني الواسع.
من هنا تأتي أشكال المقاومة المدنية المختلفة، من تعبيرات كلاسيكية بالخروج إلى الشارع.. والتظاهر والتفاعل في شبكات التواصل الاجتماعي.. ودعم الرموز والأيقونات التي تبقي رمزية القضية قائمة وشعلتها مضيئة.. وحملات المقاطعة الاقتصادية التي تعتبر واحدا من الأسلحة القليلة المتبقية بين أيدي الشعوب…
هنا يصبح النضال ضد التطبيع الشعبي شكلا من أشكال دعم القضية الفلسطينية، وصدّ المحاولات المتكررة لفرض منطق الظلم والاستحواذ على العالم. كما يصبح شكلا من أشكال الضغط والرقابة على التطبيع الرسمي.
كل هذا لا يمكن أن يتم بشكل فعال إلا في بيئة تتيح الحد الأدنى من التوافق حول مبادئ العيش المشترك وتدبير الاختلاف، لأنه وبكل بساطة لا يمكن تصوّر مثل هذا التوزيع الذكي والعقلاني في الأدوار، بين الدولة والمجتمع، في سياق شمولي أو دكتاتوري.
وحدها الأنظمة المتمتعة بقدر من الديمقراطية وكثير من الشرعية، تستطيع التعايش، المؤقت، مع هذا التناقض بيت الموقفين الرسمي والشعبي، في انتظار استعادة القدرة على حماية القرار السيادي وجعله مطابقا لاختيارات الشعب.
وفي سياق مثل هذا، لا يعقل أن نتخيّل وجود نظام سياسي يقبل بوجود نشاط شعبي مناقض لاختياراته الرسمية، بينما تسود في المجتمع شمولية أو دكتاتورية الرأي الواحد.
أعرف جيدا أن هناك شعارات قوية وملهمة تقول إن تأييد الظلم والاحتلال ليس رأيا، لكننا في النهاية قد نجد أنفسنا أمام أصوات من هذا القبيل. فماذا نحن فاعلون؟
لابد من التمييز في البداية بين الرأي المخالف الذي لا يمكن إلا القبول بوجوده وحماية حقه في التعبير، وبين أشكال السلطة المضادة التي يجب أن يقوم بها المجتمع عبر هيئاته المدنية وصحافته، لكشف ارتباطات وخلفيات بعض الأصوات التي تنبري للدفاع عن فكرة التطبيع الشامل أو تنتصر لإسرائيل ضد الفلسطينيين أو تستنكر أصلا اعتبار القضية الفلسطينية في مرتبة القضية…
الصحافة الاستقصائية والنشاط الحقوقي اليقظ الذي يجمع المعطيات ويحللها ويكشف أدوات التسلل الصهيوني إلى المجتمع، ويفضح أدوات الترويج لأجندة خارجية من هذا النوع، (أو من نوع آخر لا يهم)، كل هذا يجب أن يستمر ويمارس وظيفته الحيوية، ولا يتوقّف بمبرر احترام الرأي المخالف.
لكن رغم ذلك، لابد من وقفة للتفكير في حالة الأصوات التي يمكن أن تعبّر عن مواقف صادمة مثل زيارة مجموعة من الشبان لإسرائيل مؤخرا، أو رفض عميد كلية ابن مسيك للعلوم تكريم طالبة متفوّقة ما لم تقم بإزالة الكوفية الفلسطينية عن كتفيها… أو غيرها من الحالات التي تخرج فيها بعض الأصوات الشاذة للتعبير عن مثل هذه المواقف.
هنا، وما لم تتمكن الصحافة الاستقصائية، أو ما تبقى منها، وأدوات المجتمع المدني المختصة في رصد شبكات التغلغل والتأثير الصهيوني داخل المجتمع المغربي. وما لم يثبت أن هذا الموقف أو ذاك نتيجة لتمويل غير مشروع أو إغراء أو تأثير… فإن مواطنينا الذين يعبّرون عن مثل هذه المواقف مشمولون بالحماية الدستورية والقانونية لحقهم في الوجود وفي التعبير.
أعرف أن للفكرة طعما مرّا على الكثيرين، خاصة من قراء هذا الركن، لكن النزاهة الفكرية والموضوعية تقتضي مني التنبيه إلى المنعرجات الحادة لرحلة النقاش العمومي، وليس الاستمتاع بالتزحلق فوق محاورها المستوية والمستقيمة.
لقد تعرّض الشبان الذين قاموا بزيارة إسرائيل مؤخرا، مع كل ما سبّبته لي شخصيا مشاهد جولاتهم الاستفزازية في ضيافة الكيان المسؤول عن قتل الرضّع والأبرياء، لممارسات تمس بحقوقهم الأساسية. كما تعرّض عميد كلية بن مسيك للعلوم لتجاوزات تمس بحقوقه.
لا أريد أن أسقط هنا في فخ تدبيج صكوك الاتهام واستعمال أوصاف قانونية لأفعال جرمية. لكن هناك بالفعل حقوق أساسية لا تسقط عن المواطن كيفما كان موقفه أو سلوكه، ومنها:
• الحق في الحياة والأمان الشخصي: يتمتع هؤلاء الأشخاص بالحق في الحياة والأمان الشخصي ولا يمكن أن يكون سلوكهم مبررا لأي تهديد أو اعتداء جسدي أو نفسي.
• الحق في الحرية: يجب أن يتمتع جميع المواطنين بحرية الحركة والتعبير دون أن يتم تقييدهم بشكل غير قانوني، ولو بطرق “ناعمة” مثل الوصم والتنمّر…
• الحق في حرية التعبير: مثلهم في ذلك مثل جميع المغاربة، يحق لمن يحملون قناعات مختلفة، التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم دون خوف من التمييز أو الانتقام، طالما أنهم لا يخرقون القوانين.
• الحق في عدم التعرض للتمييز: يجب أن يتمتع جميع المغاربة بنفس الحقوق والفرص دون تمييز على أساس الرأي أو الأفعال التي لا تخالف القانون.
• الحق في الخصوصية: إذا لم يتعلّق الأمر بشخصية عمومية أو نشر إرادي، يجب أن يتمتع جميع المغاربة بحقهم في الخصوصية وعدم التعرض لتدخل غير مبرر في حياتهم الشخصية. فمن زار إسرائيل بشكل سري مثلا، من ماله الخاص وبهدف السياحة أو لغرض شخصي، فلا حق لأحد في التلصص عليه أو التشهير به.
• الحق في محاكمة عادلة: حتى في حالة وجود شبهة بخرق القانون، فإن قرينة البراءة تظل قائمة، ويجب أن يتمتع المتهمون بحقهم في محاكمة عادلة وشفافة وفقاً للإجراءات القانونية المعترف بها.

هذه مجرّد نماذج للحقوق الأساسية التي لا تسقط عن أي مواطن مهما اختلف عن الأغلبية أو خرج عن الإجماع. واحترام هذه الحقوق يساهم في تعزيز مجتمع عادل ومتسامح يحترم حقوق جميع أفراده، بغض النظر عن اختلافاتهم في الآراء أو الأفعال… وينتج في النهاية مجتمعا منيعا وقادرا على صد التهديدات الداخلية والخارجية بثقة تامة في القوانين والمؤسسات.