story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

شيطان “نيت”

ص ص

تفضّل علينا المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بتقرير جديد، يذكّرنا فيه بحقيقة وجود أكثر من ربع شباب المغرب في وضعية تيه وضياع، لا يدرس فيها ولا يعمل ولا يستفيد من أي تدريب يمكن أن يؤهله للاندماج في المجتمع.
أقول يذكّرنا لأن هذا الواقع نعرفه جيدا ومنذ سنوات، لكن الخطوة تظل مستحسنة بالنظر إلى أدوار ووظائف مثل هذه المؤسسات، وما تشكله مثل هذه الوثائق من منطلقات ممكنة للتعبئة والتحسيس وتطوير السياسات العمومية.
أكثر من مليون ونصف مليون مغربي ومغربية، ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، “لا شغل ولا مشغلة” كما يقول المصريون، أي أنهم انقطعوا عن الدراسة ولم يفلحوا في العثور على فرصة عمل ولا يخضعون لأي تدريب أو تأهيل يمكن أن يكسبهم مهارات تجعلهم منتجين ومندمجين مستقبلا.
نتحدث عن المليون ونصف مليون في الوقت الراهن، لكنهم “ضائعون” يتجددون باستمرار، ما يعني أن أجيالا كاملة من المغاربة ولجت حياة البالغين دون أن تحوز شهادات تعليمية ولا مهارات حرفية أو مهنية، مع كل ما يعنيه ذلك من انعكاسات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وهو الشق الغائب عن تقرير المجلس، والذي يمكن القول إنه أعاد إنتاج المعطيات نفسها التي تضمنها بحث قام به المرصد الوطني للتنمية البشرية قبل أربع سنوات، دون أن يتجاوزه نحو كشف انعكاسات هذا الوضع.
لا يتعلق الأمر في الحقيقة باكتشاف جديد أو ظاهرة خاصة بالمغرب، بل هي ظاهرة معروفة على الصعيد العالمي، وتعرف بعبارة مكونة من حروف لاتينية مختصرة تقرأ “نيت” (NEET)، والتي تتضمن الحروف الأولى لكلمات عبارة باللغة الإنجليزية تعني الشباب الذين لا يدرسون ولا يعملون ولا يستفيدون من أي تدريب (Not in Education, Employment or Training).
يعود أصل الظاهرة إلى بريطانيا، حيث بدأت الدراسات والأبحاث تنكب على مشكلة الشباب الموجود خارج مسارات التكوين والتأهيل في الثمانينيات، ويعيد تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ظهور التسمية أول مرة إلى العام 1999، حيث استعملت للإشارة إلى الشباب في سن 16 إلى 18 سنة، والذين انقطعوا عن الدراسة دون أن يلتحقوا بسوق الشغل أو يسمح لهم القانون بالاستفادة من منحة البطالة.
وتطور المفهوم تدريجيا ليستقر عند منظمة العمل الدولية في النسبة التي تعاني من غياب أي انشغال دراسي أو مهني ضمن الفئة العمرية من 15 إلى 24 سنة.
في حالة المغرب، تمثل فئة الشباب، كما تعرفها الأمم المتحدة، أي الشريحة العمرية 16-24 سنة، حوالي 16 في المئة من مجموع سكان المغرب، أي أكثر من ستة ملايين شاب وشابة حسب أرقام الإحصاء العام للسكان لعام 2014، فيما تشير توقعات المندوبية السامية للتخطيط أن يصبح مجموعهم 6 ملايين و300 ألف نسمة في 2030.
ويعتبر واحد من بين كل أربعة شبان مغاربة ضمن هذه الفئة العمرية، في حالة “نيت”، أي لا يدرس ولا يعمل ولا يطوّر أي نوع من المهارات أو المعارف.
وترصد الدراسات المنجزة وطنيا، ثلاث لحظات يتحوّل فيها الشاب المغربي إلى شخص لا انشغال تعليمي أو مهني له، وهي لحظة الانقطاع عن الدراسة، والتي تحصل في أغلب الأحيان في الفترة الانتقالية بين التعليمين الإعدادي والثانوي، ثم تأتي اللحظة الثانية التي يعجز فيها الشاب المغربي المنقطع عن الدراسة عن إيجاد فرصة شغل تناسب مؤهلاته وقدراته، فيما تتمثل اللحظة الثالثة في سقوط الشاب المغربي في الفراغ بعد مغادرته شغله الأول، حيث يعجز في الغالب عن إيجاد فرصة ثانية.
هل النسبة طبيعية؟ كلا، لأن المتوسّط العالمي لنسبة الشبان “نيت” ضمن مجموع فئة الشباب، يناهز العشرين في المئة، علما أن هذا المتوسّط العالمي يتأثر بأرقام دول شديدة الفقر ومرتفعة الكثافة السكانية. ولا تتجاوز هذه النسبة في الدول المتقدمة 15 في المئة، مع كل الفوارق التي يمكن تصوّرها من حيث فضاءات التأطير والتنشيط ومحاولة الإدماج…
وتبيّن خريطة توزيع هذه الظاهرة عبر جهات المغرب، كما تضمنتها دراسة سابقة للمرصد الوطني للتنمية البشرية، وجود نقطة سوداء استثنائية تتمثل في الجهة الشرقية، حيث تتجاوز نسبة ال”نيت” في صفوف الشباب 34 في المئة، بينما تقل هذه النسبة عن 25 في المئة في كل من جهة الدار البيضاء وجهة درعة تافيلالت وجهات الأقاليم الجنوبية الثلاث.
ويكشف التدقيق أكثر في تفاصيل هذه الظاهرة، أنها مؤنّثة وقروية بامتياز، حيث تمثل الإناث ثلاثة أرباع الشبان عديمي الانشغالات، فيما ترتفع نسبة الشباب “نيت” إلى 36 في المئة في العالم القروي مقابل 23 في المئة في الحواضر.
هذه المعطيات الإحصائية تنطوي على معطى مثير للتأمل، يتمثل في كون أكثر من نصف الشبان المصنّفين في هذه الخانة، هم في الحقيقة إناث متزوّجات وتقمن برعاية بيت وأبناء… مع كل ما يتطلّبه ذلك من جهد وعمل ومسؤوليات في تربية الأبناء، وبالتالي يبدو من الظلم تصنيفهن في هذه الخانة، جنبا إلى جنب مع ذلك الشاب الذي انقطع عن الدراسة ويقضي يومه في التسكع أو إثارة المشاكل وتبديد ساعات يومه.
لا أقصد بهذه الملاحظة اعتبار الزواج ورعاية البيت والأسرة بمثابة “شغل” يعفي الدولة والمجتمع من مسؤولية تمكين الفتيات من حقهن في التمدرس وتطوير مساراتهن المهنية، لكن هذا التصنيف يظل مجحفا في حق شريحة تقوم بأدوار اجتماعية واقتصادية منتجة، سواء من خلال القيام بالأعباء المنزلية أو تربية الأبناء…
ما انتظرته شخصيا من تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ولم أجده فيه، هو انعكاسات وكلفة هذا الوضع. أي كم وماذا يكلّفنا هذا “الشباب الضائع” المتراكم في حسابنا الديمغرافي على مدى عقود وسنوات؟
لا توجد أجوبة رسمية أو علمية عن هذا السؤال، رغم أن الأدبيات الدولية تتضمن نماذج مجربة في حساب الكلفة الاقتصادية والاجتماعية لظاهرة الشباب “نيت”.
ففي بريطانيا مثلا، التي تعتبر رائدة عالميا في تناول هذه المشكلة، أجريت دراسات حاول القائمون عليها تقدير الخسائر التي تنجم عن وجود فئة من الشباب الصاعد دون مسارات تعليمية أو تكوينية، وخلصوا إلى أن هذه الكلفة تتراوح في العام 2009 مثلا، بين 12 مليار و33 مليار جنيه إسترليني، كحدّين أدنى وأقصى لهذه التقديرات، وهذا من حيث الكلفة التي تمس المال العام فقط.
احتساب هذه الكلفة يصبح أعقد وأصعب حين نحاول أخذ التداعيات الاجتماعية لهذه الظاهرة، حيث تقول الدراسات العلمية إن الأشخاص الذين يمرّون في شبابهم بفترة فراغ من كل دراسة أو تكوين أو عمل، يتعرّضون أكثر من غيرهم لاحتمال السقوط في الإدمان وارتكاب الجرائم والمخالفات، كما يصبحون أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بالأمراض بقية حياتهم نتيجة مخلفات الاكتئاب والإدمان وعدم قدرتهم على تحصيل الرعاية الصحية الكافية، كما أنهم يقضون، في الغالب، حياتهم في الهشاشة، وتكون لهم قابلية أكبر للاستغلال والتوظيف مقابل أجور هزيلة…
بل إن هذه الشريحة تكون أقل قدرة على المشاركة السياسية الفاعلة والمتنورة، وتتغذى منها تيارات التطرف والشعبوية التي تميل إلى العنف والشغب…
أو كما تقول الحكمة الشعبية: راس الكسلان يسكنه الشيطان.. الله ينعلو ويخزيه!