story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

في وداع المناضل بوبكر الخمليشي.. هاذ الشيء لم ينجح كثيرا يا بوبكر

ص ص

كان بوبكر، مهما فشلت اجتماعاتنا وتواضعت أفكارنا وخبا نشاطنا… يلفحنا بابتسامته البهية ويهمس لنا بلثغته الجميلة التي ينقلب فيها الجيمُ زيناً والشين سيناً: “نزاح لكم هاذ السي” (نجح لكم هاذ الشي).

عرفت بوبكر وأنا طفل وأنا مراهق، قبل أن ألتقيه بشغف المريد الذي عانق شيخهُ بعد سنوات من السماع عنه والتَّوَلُّهِ بِمناقبه. كان بوبكر معتقلا بسجن “سات فيلاج” بطنجة، نهاية الثمانينيات حيث كنت، مراهقا، أدخُل هذا السجن في حفلات عيد العرش، رفقة أخي حسن، والد المناضلين ربيع ويوسف واسماعيل..

في “سات فيلاج” التقيتُ المغني حاييم بوطبول وشقيقه مارسيل عازف الكمنجة وموسيقين آخرين كانوا يُستقدمون لإحياء حفلات عيد عرش الحسن الثاني التي كانت “فرحا قسريا” يفرضه الديكتاتور الفُرجوي، على المغاربة، عن بُكرة أبيهم ورغم أنفهم، في الثالث من مارس من كل سنة… في “سات فيلاج” لم ألتقِ بوبكر، الذي كان رفاقه ينادونه باسمه مجردا من كل زيادة أو تسييد، ولم ألتقِ الجعايدي الذي كانوا يذكرونه بصيغة السي محمد.

ولا ألتقيت أيا من المعتقلين الذين سيصبحون بعد مغادرتهم السجن من أعز أصدقائي ورفاقي: احمد القجيري، حسن السباعي، وحكيم حنفي، والآخر الذي أفتقده كثيرا والذي دخل ظلمات درب مولاي الشريف ثم “سات فيلاج” طفلا يحمل اسم محمد القرقري، وغادره شابا صلبا نناديه الرفيق الـ “Puic”.

طيلة سنوات اعتقالهما، وبعد مغادرتهما السجن سنة 1992، وتأسيس مجموعة “أنصار إلى الأمام”، لم نكن في شمال المغرب، ندير رؤوسنا كثيرا جهة القنيطرة (حيث المناضلون الماركسيون اللينينيون بالسجن المركزي) أو نحو الرباط والدار البيضاء. كانت كعبتنا النظرية في تطوان حيث السي محمد الجعايدي، وكعبتنا الحركية في طنجة حيث بوبكر الخمليشي.

وأنا مراهق، أنشر محاولات شعرية بجرائد “الميثاق” و”العلم” وأتقفَّى بشغف أخبار المثقفين والمناضلي كنت أستدرج أخي حسن، في لحظات صفاء ذهنِه، ليحكي لي كيف يفكر هؤلاء المعتقلون وكيف يقضون يومهم في السجن… فكان يحدثني بما يلائم عمري وحساسية عمله، هو الرجل الطيب الذي قاده القدر، مكرها، لمهنة “السجان” فكان يمارسها بتقتير مهني وبإسراف إنساني.

كان يتحدث عن بوبكر الخمليشي والسي محمد الجعايدي ورفاقهما الشباب بكثير من التقدير، يُذَكرني بما حكاه لي الصحافي كريم البخاري، عن والده عميل المخابرات المغربية وزملائه في “الكاب 1” وكيف كانوا يتحدثون بإجلال واحترام عن المهدي بنبركة، الذي اغتاله رؤساؤهم. ذات يوم أسرَّ لي أخي المرحوم حسن بأنه استعارا كتابا من الجعايدي، وأنه لم يفهم منه شيئا فأعاده إلى صاحبه. قال لي “حمقني داك الكتاب”، فخمَّنتُ أن يكون كتابا في الجدل الماركسي، أنَّى لموظف سجنٍ متوسط التكوين بفهمه.

أما بوبكر فتذكُر زوجتي خلود و”أخي” يوسف ومعهما موظفي السجنين الذين سلختُ فيهما أربع سنوات وشهرين من عمري، كيف كنتُ أجعل منه قدوتي في الترفُّع عن أذى بعض مسؤولي السجنين (عكاشة وعين برجة)، وكيف كنت أحول بعض ذلك الأذى إلى ضِدِّهِ، مستلهما ما حكاه لي صديقي ورفيقي المرحوم محمد القرقري عن أن أحد المدراء الجلادين الذين تعاقبوا على سجن “سات فيلاج” بطنجة، قرر تعذيب بوبكر جسديا داخل “الكاشو”، وانتدب لذلك عددا من الموظفين اعتذروا كلهم بشجاعة عن ذلك، إلا واحدا تطوع لهذا العمل القذر الخارج عن القانون، بل اجتهد فيه حتى تسبب في كسر ساق بوبكر تحت التعذيب.

ناصب كل المعتقلين، وكثير من موظفي السجن، زميلهم الجلاد العداء، باستثناء بوبكر الذي اعتبر مجافاة “القنطري” (هذا كان اسم الموظف الجلاد) تبخيسا لنضلاته ونضالات رفاقه، فهذا الجلاد الصغير مجرد أداة في يد نظام فاسد ومستبد. دار الزمان دورته، يُضيفُ الراحل القرقري، وتسببت ابتسامة بوبكر وكلماته الطيبة للجلاد- الأداة بإحساس بالذنب، فلم يكتف بالاعتذار لبوبكر بل أصبح هو من يُخرج منشورات المعتقلين السياسيين إلى رفاقهم وعائلاتهم، ويمدهم بمثيلاتها وغيرها من الخارج.

أواسط التسعينات، عرفت بوبكر عن قرب، مناضلا في الاتحاد الوطني للمهندسين وفي الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي بالاتحاد المغربي للشغل، نقابيا صلبَ العِراك مع “الخصوم الطبقيين”، ليّن العَريكة مع العمال الزراعيين، وعموم الكادحين، يجالسهم ويستمع إليهم ويخاطبهم بلغتهم.

عرفته فاعلا جمعويا أسس أواصر واعية وغير مسبوقة بين عشرات الجمعيات من إسبانيا والمغرب أثمرت عدة لقاءات وبرامج للنضال المدني المشترك، منها لقاء نظمه بوبكر ورفيقه الاشتراكي التحرير الاسباني أوغوستين، “بين القارات من أجل الإنسانية وضد الليبرالية الجديدة” في اسبانيا صيف 1997.

وكان الرفيقان المغربي بوبكر والإسباني أوغوستين يقومان بهذا العمل المدني المشرك، في وقت كانت العلاقات الرسمية بين البلدين الجارين في أسوأ حالاتها؛ حيث اضطلعت “شبكة جمعيات الضفتين” التي كانت إبداعا من إبداعات بوبكر، بتنظيم ملتقيات جمعت عشرات الجمعيات المدنية المناضلة من اسبانيا والمغرب في قاديس سنة 1998 وفي الحسيمة سنة 1999 وقد كنتُ مشاركا في هذا اللقاء الأخير الذي انبثق عنه تأسيس “شبكة جمعيات الشمال للتنمية والتضامن” إطاراً موسعا لتتبع وتنزيل خلاصات شبكة الضفتين المنعقد بمدينة طنجة في ديسمبر 2001.

لقد كان لبوبكر دور كبير في تجسير العلاقة بين اليسار المناضل في المغرب وإسبانيا، ودفع هذا الأخير لاتخاذ مواقف قوية لصالح القضية الفلسطينية. وقد عبرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن ذلك حين وصفته في رسالة نعيها الرفيق القومي والأممي المناضل بوبكر الخمليشي”.

ورغم أن المرض أقعده، لم يكن بوبكر يتوانى عن الخروج على كرسي متحرك في المسيرات المساندة للقضية الفلسطينية والمنددة بالتطبيق مع الكيان الصهيوني الفاشي. وكم كان يثلج صدري ويضيء ظلمة زنزانتي الانفرادية، عندما كان يصلني سلامه وتضامنه مع “أخويّ” يوسف وربيع.

رحمك الله يا بوبكر الخمليشي.
“نعم سنموت ولكننا
سنقتلع الموتَ من أرضنا
…………
هناكَ أرى عاملاً في الطريقِ
أرى قائد الثورةِ المنتصر
يُلوِّحُ لي بيَدٍ من حديدْ
وأخرى تطاير منها الشررْ
نعم لنْ نموتَ، ولكننا….
سنقتلع الموت من أرضنا
أنا الآن بين مئات الرفاقِ
أشدُّ لقبضاتهم… قبضتي
أنا الآن أشعرُ أني قويٌّ
وأني سأهزمُ… زنزانتي
نعم لنْ نموتَ، ولكننا….
سنقتلع الموت من أرضنا
نعم لنْ نموتَ، نعم سوف نحيا”.