story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

“ماكرون” لذيذ

ص ص

أخيرا صدر رسميا ما كان متوقعا إعلاميا. أي رسالة الاعتراف الفرنسي بمنح الصحراء حكما ذاتيا يبقيها تحت السيادة المغربية، والتي كشف عنها بلاغ الديوان الملكي الصادر صبيحة يوم عيد العرش، هذا الثلاثاء 30 يوليوز 2024.
سنترك الرمزية العميقة التي يحملها الموعد الذي تم فيه هذا الإعلان، أي يوم عيد العرش الذي هو بمثابة “عيد الملكية” في المغرب. وسنحاول في هذه المساهمة أن نجيب عن تساؤلات كثيرة أثارها هذا الإعلان، في غياب نقاش عمومي يغذيه خبراء وأكاديميون كما هو الحال في بلدان المواطنين.
دفعني إلى الانكباب على هذا الموضوع ومراجعة وثائقي وكتبي الشخصية حوله، رد الفعل الذي أثارته عبارة صغيرة أرفقتها برابط تقرير إخباري حول بلاغ الديوان الملكي، وقلت فيها إن الاعتراف الفرنسي قد يكون أهم من الاعتراف الأمريكي.
فقد وصلتي عدد من الرسائل والتعليقات التي تستوضحني حول هذه العبارة. وهو ما سأحاول الجواب عنه في هذا المقال، بكثير من الاختزال والتبسيط، بالنظر إلى تعقيدات وتشعبات الموضوع.
أول ما ينبغي تسجيله في هذه المحاولة، هو تحديد المنطلق، والذي هو بلاغ الديوان الملكي الذي يخبرنا بتلقيه رسالة من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون.
لقد اخترنا في هذه الصحيفة، على غرار منابر عديدة، أن نقول انطلاقا من هذا البلاغ إن فرنسا اعترفت بسيادة المغرب على الصحراء. بل إننا أعلنا ذلك الأسبوع الماضي استناد إلى بلاغ وزارة الخارجية الجزائرية، والذي اعتبرنا أنه مصدر صحيح مهنيا، بما أنه وثيقة رسمية لدولة قائمة، أعلن توصّل الجزائر بإخبار الفرنسي يهم اعتراف باريس بالسيادة المغربية على الصحراء.
جادلَنا البعض في هذا الاختيار، حتى بعد صدور بلاغ الديوان الملكي. وأصرّ هذا البعض على أن الأمر يتعلّق بدعم فرنسي لمقترح الحكم الذاتي فقط، وليس باعتراف بالسيادة.
موقف لا نناقش حقه في الوجود وفي التعبير عن نفسه. لكنني شخصيا أعتبره نتيجة لتأثر البعض بتحليلات وتعليقات تهم المواقف الأخيرة لدول أوربية مثل ألمانيا وإسبانيا.
أنا نفسي كنت وما زلت أعتبر أن إسبانيا مثلا لم تعترف بعد، رسميا وعلنيا، بمغربية الصحراء، بل أعلنت “نصف اعتراف” من خلال دعمها لمقترح الحكم الذاتي، كما هو الحال مع ألمانيا ودول أخرى.
لكن الحقيقة اليوم أن كلا من بلاغات وزارة الخارجية الجزائرية (صدر بلاغ آخر بعد بلاغ الديوان الملكي)، ومضمون بلاغ الديوان الملكي، يقول إن فرنسا تعترف بسيادة المغرب على الصحراء، ولا تكتفي بدعم مقترح الحكم الذاتي.
لنقرأ من البلاغ:
“…شدد فخامة الرئيس إيمانويل ماكرون على أنه “بالنسبة لفرنسا، فإن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يعد الإطار الذي يجب من خلاله حل هذه القضية. وإن دعمنا لمخطط الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب في 2007 واضح وثابت”.
ثم يضيف البلاغ نقلا عن رسالة الرئيس الفرنسي:
هذا المخطط “يشكل، من الآن فصاعدا، الأساس الوحيد للتوصل إلى حل سياسي، عادل، مستدام، ومتفاوض بشأنه، طبقا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة “.
هو إذن اعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، بما أن باريس لم تعد ترى من حل للنزاع سوى الحكم الذاتي، أي استبعاد أي احتمال آخر، وعلى رأس تلك الاحتمالات الانفصال.
طيّب لماذا قد يكون اعتراف فرنسا أهم من اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية؟
بكل بساطة لأن فرنسا، وهي الدولة الصغيرة والضعيفة مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية، تتمتع بنفوذ ومصالح وقدرة على التأثير في منطقة المغرب العربي، أكثر مما تملك أية قوة دولية أخرى.
نعم حدثت تغييرات كثيرة في السنوات الماضية. وفرنسا التي كانت تستعمر المنطقة لم تعد هي فرنسا الحالية، وواشنطن اكتسبت الكثير من النفوذ، كما حصلت روسيا على موطئ قدم في تخوم المنطقة، وباتت للصين مصالح لا يستهان بها… لكن فرنسا هي صاحبة الإرث التاريخي الأساسي في المنطقة.
لا داعي للتذكير بمظاهر التأثير والنفوذ مما يمكن لأي شخص مطالعتها عبر محركات البحث في الإنترنت، في مجالات الاقتصاد والأمن والثقافة والنخب المحلية المرتبطة ماديا ومعنويا فرنسا… ولننتبه إلى أن الوجود الفرنسي في المنطقة يراكم ما لا يقلّ عن ثلاثة قرون من اختراق الأنظمة السياسية والاجتماعية والدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية…
هذه الخبرة وهذا النفوذ الفرنسيين، هما اللذان أنتجا الخريطة الحالية لكل من منطقتي شمال وغرب إفريقيا. وعندما نتحدث من داخل منطق يفترض أن واشنطن هي الفاعل الأساسي، فإن هذا الفاعل لا ينطلق في تعاطيه مع المنطقة من فراغ، بل يبني اختياراته وتحركاته على الوضع القائم على الأرض، من مصالح وتوازنات…
وكما أفعل بشكل شبه دائم، أدعو من يريد فهم هذه الفقرة إلى دخول مواقع الأرشيف الدبلوماسي والاستخباراتي الأمريكي الذي خرج إلى العلن في السنوات الأخيرة، لفهم كيف يبني صانع القرار الأمريكي اختياراته تجاه المنطقة، وفي ملف الصحراء تحديدا، وكيف يراعي بشكل دقيق مصالح حلفائه وفقا لتراتبيتهم من حيث الأهمية. ولا يوجد أهم من فرنسا ضمن هذه الرؤية الأمريكية في منطقتنا هذه.
وإذا كان الفاعل الأمريكي قادرا، بفعل قوته الواضحة، على الضغط والتوجيه؛ فإن الدور الفرنسي الذي يمكن أن نصفه بالسفلي، في مقابل دور علوي لواشنطن، قادر أكثر على صنع التحوّل العميق في المنطقة.
ويكفي هنا أن نعلم أن الوضع الجيو-سياسي الحالي لمنطقتنا، هو صناعة فرنسية مئة في المئة. ولا شك أن باريس حتى وهي تضعف وتتراجع كقوة دولية، ما زالت تحتفظ بالكثير من مفاتيح المنطقة. بل إن النزاع الحالي حول الصحراء بين المغرب والجزائر، هو استمرار لنزاع قديم، لا يقلّ عمره عن قرن كامل، بين الحكم الاستعماري العسكري في الجزائر، والإقامة العامة الممثلة للحماية الفرنسية في المغرب. أي أنه في الأصل خلاف فرنسي فرنسي.
الوثائق السرية للأرشيف الفرنسي التي تم تهريبها بالكامل لحظة إنهاء العمل بمعاهدة الحماية الفرنسية في المغرب، والتي لم تبدأ في الخروج إلى العلن سوى بعد نهاية الحرب البارحة، في التسعينيات، وبفضل بعض الأساتذة والباحثين المغاربة المجتهدين، وهم قلائل، بات بإمكاننا الاطلاع عليها؛ تكشف كيف أن مشروع ضم إقليم الساقية الحمراء إلى تراب الجزائر الفرنسية فكرة استعمارية قديمة، أول من قاومها، لسخرية الأقدار، هو المقيم العام الفرنسي هوبير ليوطي.
بل إن بإمكاننا أن نقول بكل جزم ودون أدني خوف من الوقوع في الخطأ، إن فرنسا هي أكثر العارفين بمغربية الصحراء، أكثر حتى من المغرب ونظامه السياسي، لسبب بسيط هو، بالإضافة إلى حيازتها للأرشيف، كونها كانت قد خلصت في القرن التاسع عشر، إلى أن منظومة الحكم “المخزنية” بكل تجلياتها القبلية والاجتماعية والدينية (الصوفية بالخصوص)، هي الطريقة الأكثر فعالية للسيطرة على المناطق التابعة تاريخية للمغرب وتدبيرها.
لهذا يصبح اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء والذي ستضطر الدولة الفرنسية إلى تبريره وتفسيره لمواطنيها، ولن تقتصر على خطاب المصالح والدبلوماسية، يعني دخول ملف قانوني ضخم ومتين إلى دائرة النقاش الرسمي حول النزاع، وهو الملف الذي افتقر إليه المغرب لحظة لجوئه إلى محكمة العدل الدولية منتصف السبعينيات.
انطلاقا من هنا يمكن أن نفهم، بعيدا عن لغة الدعاية السياسية بما فيها تلك التي تقوم بها السلطات المغربية، خلفية الموقف الجزائري.
فجيراننا لم يدخلوا على الخط بعدما نظمت المسيرة الخضراء وانسحبت إسبانيا، وحاولوا معاكسة استرجاع المغرب لأراضيه… بل إننا أمام موقف وجودي بالنسبة للجزائر، لأن جبهة التحرير الجزائرية، وإلى جانب الحدود السياسية التي رسمها الاستعمار الفرنسي لمجال كان يعتقد أنه سيصبح جزءا لا يتجزأ من التراب الفرنسي، ورثت أجندة استعمارية قديمة تقضي بضم الساقية الحمراء إلى الجزائر، بحثا عن تقوية الموقع الجيو-سياسي لهذه الأخيرة بمنفذ على المحيط الأطلسي، وتمهيدا لمحو شيء اسمه المغرب من خريطة المنطقة.
لا يمكننا أن نستوعب ما يجري في ملف الصحراء إذا لم ندرك أننا نواصل دفع ثمن لعبة دولية كبيرة انطلقت منذ قرنين على الأقل، غايتها اجتثاث هذه الدولة المغربية من عمقها الاقليمي، منذ امتدت أيادي الاستعمار لاقتسام الشمال الافريقي.
ولكي نفهم التصعيد والتشنج الجزائريين من خطوة الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء، أكثر من أي اعتراف آخر حصل أو سيحصل عليه المغرب، يجب أن نستحضر معطيين اثنين:
الأول هو التغيير الجيوسياسي الذي يطرأ في المنطقة حين ينتهي ملف الصحراء. أي تخلّص المغرب من واحدة من أكبر معيقات تطوّره كقوة إقليمية. وإمكانية انطلاقه بقوة بفعل متانة وشرعية نظامه السياسي، بالرغم من هشاشة ديمقراطيته، في مقابل مراوحة النظام الجزائري لمكانه منذ الاستقلال بداية الستينيات، وعجزه عن امتلاك أجندة بديلة عن لعبة محاصرة وتكبيل المغرب. أي وبكل اختصار: يفقد النظام الجزائري أي مبرر لوجوده في غياب ملف الصحراء، ويصبح بالتالي في مواجهة أسئلة داخلية وخارجية لا قبل له بالجواب عنها؛
أما المعطى الثاني، وهو في تقديري أهم وأخطر، فيتعلّق بكون الاعتراف الفرنسي يعني قبول باريس برفع السرية عن أرشيفها الدبلوماسي والعسكري والاستخباراتي، لأنها تحتاج إليه لتبرير موقف الاعتراف هذا بشكل قانوني. والكارثة بالنسبة للجزائر في هذه الحالة هي أن هذا الأرشيف الفرنسي، باعتباره مادة قانونية، لا يتضمن ما يثبت بشكل قاطع مغربية الصحراء فقط، بل مغربية منطقة شاسعة تضم أراض تقع ضمن مجال أربع دول حالية، وفي مقدمتها الجزائر. فهل يعقل أن تبرر فرنسا اعترافها بسيادة المغرب بما تحوزه من وثائق قانونية، دون أن تجد نفسها تقدم ما يفيد مغربية بشار وكولومب وتندوف…؟
هذا عن طبيعة ما أعلنه بلاغ الديوان الملكي، ولماذا يعتبر الموقف الفرنسي أكثر أهمية من نظيره الأمريكي، ولماذا تبدي الجزائر حساسية كبيرة تجاه الموضوع. فماذا يعني الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء في نهاية الأمر؟
عندما نقول الاعتراف فإننا نشير إلى قاموس القانون الدولي. وهذا الأخير يميّز بين نوعين من الاعتراف: الأول يرتبط بنشأة دولة جديدة، ويقتضي القانون الدولي في هذه الحالة وجود العناصر الثلاثة الضرورية لقيام دولة، وهي الأرض والسكان والسلطة، ليأتي الاعتراف الدولي ليتوّج عملية الولادة هذه. والنوع الثاني هو الاعتراف في حالة قيام دولة قائمة أصلا، بضم إقليم جديد لم يكن تابعا لها، إما لكونه كان مستعمرا كما هو الحال مع الصحراء المغربية، أو لأن الضم كان نتيجة حرب أو رغبة سكان إقليم ما بالانضمام إلى هذه الدولة…
في حالة دولة جديدة، يكون الاعتراف الدولي ضروريا ويكاد يكون شرطا من شروط الوجود. بينما في حالة انضمام إقليم جديد لدولة قائمة، فإن هذا الاعتراف وإن كان ضروريا، لكنه أقل أهمية ولا يعتبر منشئا للسيادة.
في الحالتين معا، يظل اعتراف دولة ما قرارا سياديا وثنائيا، تنتج عنه آثار قانونية داخل الدولة مصدر الاعتراف، ولا ينعكس بشكل فوري ومباشر على الوضع القانوني والدولي.
فاعتراف واشنطن أو باريس بمغربية الصحراء، يؤدي أولا إلى رفع كل القيود التي يمكن أن تواجه العلاقات المغربية معهما، مثل التعاون العسكري وتصدير منتجات آتية من الصحراء… وهذا مكسب كبير دون شك.
يبقى أن الأثر داخل مجلس الأمن الدولي، والذي يفترض في ظل الوضع الحالي للنظام العالمي وميثاق الأمم المتحدة، أن يكون صاحب القرار النهائي في الوضع القانوني للصحراء، يحتاج إلى التصويت على قرارات جديدة، بما أن القرارات القائمة حتى الآن ما زالت تعتبر أن تقرير المصير لم يتم بعد في الصحراء.
وهنا يمكن أن نفهم، نسبيا، كيف استمرّ الاختلاف بين الموقف الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية، التي تعترف منذ 2020 بمغربية الصحراء، وقرارات مجلس الأمن الدولي التي لم ينتقل إليها هذا الاعتراف رغم أن واشنطن هي “حاملة القلم”، أي هي من يكتب المسودات الأولية لقرارات المجلس.
كما يمكن أن نفهم لماذا قد يكون الاعتراف الفرنسي أهم من نظيره الأمريكي، لأن باريس، العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، وصاحبة المصالح الحيوية الأكبر في المنطقة بين كل القوى الدولية، ضرورية في أي تغيير نوفي لمواقف وقرارات مجلس الأمن الدولي.
باختصار. الموقف الفرنسي الجديد هو بالفعل نوعي وشديد الأهمية. بل قرار مذاقه حلو كحلوى “الماكرون” الفرنسية الشهيرة. لكن علينا ألا ننسى أن حبة “الماكرون” بقدر حلاوتها ولذتها، فإنها هشة وسريعة الانكسار. ولا بديل للمرد عن “حلوى الدار” التي نستطيع أن “نعجنها” ونزيّنها، بمكونّاتنا الوطنية الخاصة، من ديمقراطية وتعددية وتمكين للقانون والمؤسسات.