story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

بشلامة

ص ص

من كان يتوقّع أن ينتهي ذلك المخاض العسير الذي سبق ميلاد المقابلة التلفزيونية لرئيس الوزراء الإسرائيلي، المجرم ضد الإنسانية بنيامين نتانياهو، مع الإعلام الفرنسي، بتلك الوقاحة والصلافة التي سمحت لممثل الكيان اللقيط ببتر صحراء المغرب، ليس من تراب دولته الوطنية، بل من العالم العربي برمّته.
إنها “نية المغاربة في عكازهم”. والذريعة الوحيدة التي كان المدلّسون والانتهازيون من بني جلدتنا يبررون بها الانغماس في أحضان الكيان المجرم، أي استرجاع الصحراء والحصول على اعتراف دولي رسمي بمغربيتها، باتت اليوم السبب الأول لرفع مطلب القطيعة والانتقال إلى الجانب الصحيح من التاريخ، جانب القضية الفلسطينية العادلة، بوضوح وحسم، ودون بيع ولا شراء.
لم يعد هناك بعد اليوم من مجال لترهيب وتخوين من يطالبون بالتوازن في العلاقات الخارجية والاعتدال في الأكل من طبق المعسكر الغربي، والإبقاء على خط الرجعة مع محيطنا وحاضنتنا الجغرافية والثقافية والحضارية.
لا مجال بعد اليوم أمام المدلّسين للتغرير بالبسطاء وإيهامهم بأن للمهرولين نحو موائد القتلة المجرمين مبررات وطنية، وأنهم يقدمون المصلحة الوطنية على الاعتبارات الإنسانية، كأن الوطنية لا تكون إلا ضد الإنسانية ولا تتحقق إلى فوق جماجم الأطفال.
لقد تحمّلنا طويلا شعورا بالخزي والعار من شبهة القفز نحو الضفة الخاطئة من التاريخ. ودارينا طويلا شعورنا بالحزن والأسى كلما نظرنا إلى وجوهنا في المرآة. ذلك الوجه الذي كنا نطل به على العالم منذ أزيد من ثلاث سنوات، لم يكن وجهنا.
كنا كالمستجير من الرمضاء من النار. نخرج للدفاع عن بلدنا ودفع شبهة التطبيع عنه. بينما كان المدلّسون الانتهازيون يمعنون في نكئ جرحنا لأنهم يعرفون أن المغربي أفضل من يحمل شعار “بلادي وإن جارت علي عزيزة”.
كنا نتعب كثيرا كي نعبّر عن موقفنا الإنساني والمبدئي والأخلاقي، دون أن نطعن أو نجرّح في بلادنا أو نمنح لخصومها فرصة النيل منها.
هذا عن الشق العاطفي في القصة، فننتقل إلى الشق العقلاني:
ما قلناه ورددناه مرارا وتكرارا من كون الاتفاق الثلاثي جاء لتقييدنا وشل حركتنا وتسخيرنا لغير ما يشبهنا ويحقق مصلحتنا، يخرج اليوم ليفصح عن نفسه أمام أعيننا.
ما رددناه طويلا من كون الصمود أمام العاصفة الصهيونية ليس بالضرورة دفاعا عن الفلسطينيين، بل هو أولا دفاع عن الوطن، ينفلت اليوم من عقال التضليل والتعتيم والتدليس.
صحيح أن قرار إحياء العلاقات الرسمية مع إسرائيل قرار الدولة واختيارها الذي فرضته على المجتمع، لكن هذه الدولة قاومت أيضا، وتمنّعت طويلا، وحتى عندما حدثت وخضعت ووقّعت، قالت إنها لن تبيع فلسطين مقابل الصحراء، وامتنعت عن تبادل السفارات مع الكيان، ونددت متى استطاعت بجرائمه…
وما جرى اليوم لا ينبغي أن يحملنا على إلقاء الحمل بالكامل على الدولة. لأن ما حدث في السنوات الأربع الماضية لم يكن سببه سلوك الدولة واختياراتها فقط، بل كان سلوكنا جميعا كمجتمع مشلول ومخدّر، سببا في انزلاقنا المخجل نحو موقف كاد يجعلنا في بعض اللحظات في صف كيان القتل والتدمير.
لقد كان من بيننا ممن تربصوا طويلا وتسللوا نحو أوصال الدولة، وقفزوا على الفرصة بانتهازية، وفتحوا أمام الصهاينة أبواب استباحتنا، وأحرجوا الدولة بهرولته وانبطاحه، ولم نعبّر قط، حتى بعد ملحمة سابع أكتوبر والعدوان الجديد على غزة، على موقف شعبي يعبّر حقا عن رفض حقيقي ووعي وطني بدرجة التهديد ومداه.
خريطة نتانياهو التي رُفعت في وجوهنا بتلك الطريقة الممسرحة والدرامية، تعني أن بلادنا في مرمى النيران، وتتعرض لأعلى درجات الضغط والابتزاز، وأن المجرمين يعتقدون أنهم امتلكوا ما يكفي من حبال لتكبيلها والتنكيل بها والتمثيل بها حية.
خريطة نتانياهو تعني أن الضمانات الأمريكية في الاتفاق الثلاثي غير حقيقية ولا موثوقة. الكيان لا يقيم وزنا للحليف الأمريكي ولا ينضبط لاختياراته ولا يمكننا بالتالي أن نستمر في العيش داخل وهم التعويل على هذه الضمانات الواهية، وإلا أين هي القنصلية الأمريكية الموعودة في الداخلة منذ ما قبل توقيع الاتفاق الثلاثي؟
خريطة نتانياهو تعني أيضا أن إسرائيل ليست رقما إيجابيا في المعادلة الإقليمية للمغرب في مقابل الجزائر. وإذا كان خلافنا وصراعنا الوجودي مع جارتنا الشرقية يتعلّق بالصحراء، ها هي ذي إسرائيل تتلاعب بقضيتنا وتستخدمها ضدنا وتحشرنا بسببها في الزاوية الضيقة، ولا مجال للثقة فيها أو التعويل عليها، سواء عسكريا أو سياسيا.
خريطة نتانياهو تعني أن ورقة الجالية المغربية في إسرائيل مجرد خرقة يمسح بها نتانياهو نجاسته ويلقي بها في القمامة. لو كان لليهود المنحدرين من أصول مغربية داخل إسرائيل، والمتمتعين بحضور وازن ضمن الكتلة الناخبة لليمين الإسرائيلي بقيادة نتانياهو، “حسّ” الموقف الوطني تجاه بلدهم الأصلي، لما تجرأ نتانياهو على مشاعر المغاربة وكبريائهم وما يصنع كينونتهم.
خريطة نتانياهو تعني أن علينا أن نراجع ما بدأنا في صياغته في السنوات الأخيرة من أطروحة جديدة حول الهوية الوطنية والمكون العبري فيها، وتخليص هذه الأطروحة من الرواسب والبصمات الصهيونية-الإسرائيلية.
لدينا الكثير مما ينبغي لنا استرجاعه وتثمينه من إرثنا اليهودي الوطني الخالص، وهناك الكثير الكثير من اليهود المغاربة الوطنيين عبر العالم. وعلينا بالفعل أن نعمل على استعادة ثرائنا الحضاري العبري الذي سرقته منا إسرائيل، كما تسرق منا الكثير من الرموز والثروات الطبيعية والثقافية، لكن بعيدا عن الصهاينة والمجرمين.
علينا أن نملك ما يكفي من الجرأة، والاستعداد الكامل لتحمل التبعات ودفع حتى الثمن، لنقول لمن باعونا الوهم وحاولوا اقتيادنا، دولة ومجتمعا، نحو بورصة التنازل عن كل شيء مقابل لا شيء، أن “بشلامة” كما يقول إخوتنا اليهود المغاربة لمن يودّعونه.