story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

ظاهرة تستدعي الدراسة

ص ص

لا ينبغي أن يختزل ازدحام اليافعين الشديد على الكاتب السعودي أسامة المسلم، خلال دورة المعرض الكتاب الأخيرة في الرباط، في مجرد حدث عابر انتهى بمغادرة من كان وراءها يوم السبت ذاك. لا، لأن ما حدث يترجم ظاهرة اجتماعية ناشئة، لكنها مركبة ومعقدة، وإن لم تظهر للعيان، وهي تهم فئة مهمة من الشباب، عادة ما لا تعبر عن أفعالها تعبيرا واضحا في الفضاء العمومي، ولا تبدي اهتمامها بالقراءة، والثقافة عموما، إلا لماما. ومن هنا، يسائلنا ما حدث على مستويات عدة.
يتمثل المستوى الأول في بعد اجتماعي، مفاده أن من حجوا إلى المعرض للحصول على توقيع أسامة المسلم يشكلون قوة اجتماعية منسجمة، تتواصل فيما بينها بشكل دائم عبر شبكات التواصل الاجتماعي. كما أنها تبني آراءها وتمثلاتها داخل دائرة التواصل هذه، بعيدا عن كل التأثيرات الأسرية والاجتماعية والخارجية، مثل المدرسة والمسجد، الخ. وهذا ما جعل هذه الجماعة من اليافعين تبدو، في حجها الجماعي المتفق عليه إلى المعرض، كأنها تنتمي إلى عالم آخر. هكذا، ينبغي على الباحثين في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا أن يشحذوا مفاهيمهم ومناهجهم للتصدي للظاهرة ومحاولة فهم ظروف نشأتها وأسبابها.
وينعكس المستوى الثاني من خلال التواصل الذي أشرت إليه آنفا؛ ذلك أن السؤال هنا يفترض النظر في ما تتيحه شبكات التواصل الاجتماعي من إمكانيات هائلة للحشد والتأطير وتوجيه الاختيارات. لقد تمثلت الصدمة- عند المثقفين بوجه خاص- في طبيعة اختيارات هؤلاء اليافعين القرائية، لأن الأمر لا يتعلق بكتابة فذة ولامعة، وإنما بتأليف سطحي بالغة التفاهة. لكن صاحبها نجح في أن يوصلها إلى هؤلاء الشباب في العالم العربي كله، لا في المغرب فحسب، بفضل استثماره في هذه الشبكات التي يجيد شباب اليوم توظيفها واستخدامها. هكذا، يمثل ما حدث فرصة استثنائية أمام الباحثين في علوم الإعلام والتواصل لدراسة تأثير هذه الشبكات التواصلية، ومعرفة مدى اهتمام الشباب بها.
ويتجسد المستوى الثالث في بعد ثقافي، ينبغي أن يركز على اختيارات الأجيال الناشئة ومقروءاتهم وهواياتهم المفضلة. يبرز ما حدث أن من حجوا إلى المعرض من الشباب يميلون إلى صنف معين من الكتب، يتميز بعوالم حافلة بالفانتازيا والغرابة والخرافة والأسطورة والتراجيديا، وحتى الرومانسية المشوبة بأحداث مأساوية أو مؤلمة أو تعذيبية، وربما لا يحبذون الكتب الجادة التي تتميز باختيارات منهجية جافة أو معقدة أو مستغلقة أو غير ذلك. في الواقع، تعبر هذه الاختيارات عن غياب دَوْر مؤسسات الوساطة الاجتماعية، مثل دُور الثقافة والجمعيات والأندية الثقافية، وعن ضعف تأثير التربية داخل الأوساط الأسرية، وعن انحصار أثر التعليم والتكوين داخل مؤسسات التعليم، الخ. وهذا يستدعي من المثقفين والمبدعين الانفتاح على شرائح جديدة من القراء، والاهتمام بها، والتأليف لها؛ ومن المهتمين بالخطابات والممارسات الثقافية دراسة التوجهات الثقافية والاختيارات القرائية عند الأجيال الصاعدة، خاصة الأطفال واليافعين.
وأخيرا وليس آخرا، ثمة مستوى آخر متمثل في بعد نفسي، يترجمه هذا الهوس الجماعي بالنجوم في مختلف المجالات، من كرة القدم، مرورا بالسينما والغناء، وليس انتهاء عند شبكات التواصل الاجتماعي. برزت هذه االظاهرة مع ظهور وسائل الإعلام وانتشارها، إذ استطاعت أن تخلق ‘ثقافة جماهيرية’ سمتها الأساس الهوس بمن تكرسهم ‘نجوما’ و’مشاهير’. وقد تحول هذا الهوس، مع مرور الزمن، إلى ما يشبه التأليه والعبودية اللذين يجعلان من الجماهير عشاقا (fans) ممسوسين بعبادة ‘نجمهم’ المعشوق، ومطالبين باتباعه والسير على نهجه في كل شيء. ورغم اهتمام علماء النفس عبر العالم بهذه الظاهرة، إلا أننا لم ننتج في المغرب ما يكفي من الدراسات النفسية المساعدة على فهم الظاهرة في بعدها المحلي، بعد أن أخذت تتنامى في سنوات الأخيرة تحت تأثير وسائط الإعلام المختلفة.
وما ينبغي أن نتحاشاه عموما هو النظر باستهجان أو استنكار أو لامبالاة إلى ما حدث خلال معرض الكتاب. ذلك أن الظاهرة موجودة؛ وهي مركبة، وإن بدت منفردة. وستكرر بلا شك في أحداث مماثلة. وما لم ندرس مستوياتها المختلفة، ستبقى هذه الفئات الاجتماعية الهشة وغيرها، خاصة الآباء والأسر، عرضة دائما لتأثيرات خارجية قد ينعكس بعضها بشكل خطير على توجهات الأفراد واختياراتهم. من هنا، على كل مهتم بهذه التعبيرات أن ‘ينزل’ إلى الميدان، وأن يباشر طرح هذه الأسئلة الحارقة.