story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

السجناء الأبرياء

ص ص

أفرج المندوب العام لإدارة السجون، محمد صالح التامك، عن التقرير السنوي المتعلق بأنشطة إدارته برسم العام 2023، والذي جاء ليؤكد استمرار الوضعية التي تجعلنا جميعا شعبا في حالة سراح مؤقت، بما أن سلب الحرية يستمر اختيارا ممنهجا ومفرطا وغير مبرر إلا بسياسة جنائية لا ترى من سبيل ل”ضبط” المغاربة سوى العصا والعقوبات التي تسلب الانسان أعزّ ما يملكّ: حريته.
الوثيقة التي يفترض أن تسلط الضوء علي حياة وظروف عيش أقلية قليلة من المنحرفين والخطرين على المجتمع، تفتح أعيننا على مجتمع مواز بتعداد يفوق المئة ألف مغربي، في مستوى قياسي لم يصله المغرب قط في السابق، ولا أحد من مسؤولي الدولة، بحكومتها وقضائها وبرلمانها، خرج ليوضح سبب ظهور هذا “الشعب” القابع خلف القضبان؟
بعيدا عن لغة “ويل للمصلين” ورياضة لي عنق الأرقام بالحديث عن نسبة المعتقلين الاحتياطيين في لحظة معينة، والتي لا تعني شيئا، بما أن هذه الفئة من السجناء تتغير باستمرار، يجدر بنا التحلي بالشجاعة الكافية لنقرأ الرقم الصحيح: 95 في المئة من المغاربة الذين أكرهوا على دخول السجن في العام 2023 هم سجناء احتياطيون، أي لم تصدر في حقهم بعد أية أحكام نهائية تستوجب التنفيذ، مقابل 5 في المئة فقط ممن تم اقتيادهم نحو المؤسسات السجنية، جاؤوا بناء على مقررات قضائية تتطلب هذا الإجراء.
ويقول تقرير التامك الجديد إن 6 في المئة من ال106 ألف مغربي الذين أفرج عنهم خلال العام 2023، استعادوا حريتهم بعدما صدرت في حقهم عقوبة غير سالبة للحرية أصلا، أي أن أكثر من ست آلاف مغربي زاروا الزنزانة السجنية العام الماضي دون أن يتركبوا ما يستوجب ذلك.
أكثر من ذلك، خمسة في المئة من المفرج عنهم، لم تتم إدانتهم أصلا، وصدرت في حقهم أحكام موجبة للأفراج مثل البراءة وسقوط الدعوى العمومية، وهم بالتالي أبرياء تماما لكنهم سجنوا لفترات متباينة. أي أننا إجمالا أمام أكثر من 12 ألف مغربي سجن في العام الماضي دون أن يكون ذلك مستحقا.
حسنا فعل المندوب العام، محمد صالح التامك وهو يذكّر في الفقرة الأولى من كلمته التقديمية للتقرير، بصرخته التي أطلقها الصيف الماضي، عندما حذّر من خطورة تجاوز عدد السجناء عتبة المئة ألف نسمة، وهو ما جرّ عليه ردودا غاضبة غير مفهومة من جانب بعض الأصوات المنتمية إلى سلك القضاء.
وإذا كان البعض قد استهجن خروج المسؤول الإداري الأول عن المؤسسات السجنية لمواجهة القضاة والساهرين على تنفيذ السياسة الجنائية، فإنه اليوم يقدّم أفضل أدوات خوض المعارك الترافعية والحقوقية، وهي البيانات الإحصائية.
ليس عيبا أن نجد أنفسنا في إحدى اللحظات نتقاسم مع السيد التامك الجبهة نفسها رغم كل “الزبايل” التواصلية التي راكمها في سجله، بل والانتهاكات التي ارتكبها في حق بعض النزلاء عبر بلاغاته المنفلتة من المنطق والموضوعية، وإن كانت للتامك “مصلحته” الخاصة المتمثلة في رفع عبئ استقبال ورعاية هذا “الشعب” الكبير من السجناء، مع ما يترتب عن ذلك من اكتظاظ وضغط على الموارد.
في شهر غشت الماضي، أثارت بضع كلمات تضمنها بلاغ استثنائي للمندوبية العامة لإدارة السجون، ردود فعل غاضبة من بعض الهيئات الممثلة للقضاة، بسبب ما اعتبروه تحاملا على القضاء واتهاما له بالمسؤولية عن تفاقم الاكتظاظ في السجون.
رد الفعل هذا ظل غير مفهوم وسببا للكثير من التساؤلات، خاصة أن إشارة أكثر وضوحا وصراحة وفي خطاب مباشر، صدرت قبيل ذلك (بداية يونيو 2023)، عن كل محمد عبد النباوي، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والحسن الداكي، رئيس النيابة العامة، من خلال دورية مشتركة موجهة إلى الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف والوكلاء العامين للملك لديها ورؤساء المحاكم الابتدائية ووكلاء الملك لديها، حول إحداث لجان مشتركة لتتبع وضعية الاعتقال الاحتياطي.
المذكرة تؤكد “الطابع الاستثنائي للاعتقال الاحتياطي”، وتعلن بوضوح أنه “لوحظ، بمناسبة تتبع وضعية الاعتقال الاحتياطي بمختلف محاكم المملكة، أن نسبته تعرف ارتفاعاً مضطرداً، خلف ضغطاً متزايداً على الطاقة الاستيعابية للمؤسسات السجنية على النحو الذي يستدعي تضافر جهود كافة المتدخلين في قضايا المعتقلين والاستثمار الأمثل لمختلف المساطر والإجراءات الكفيلة بتذليل الصعوبات العملية المطروحة، عبر التأسيس لآلية للتنسيق المحلي والجهوي، على غرار التنسيق القائم على المستوى المركزي لأجله”.
الأصوات المحافظة القليلة التي تدافع عن السياسة الجنائية القائمة على السجن أولا، لا تجد ما تدافع به عن طرحها سوى التخويف من خطر بقاء بعض الأشخاص الخطرين طلقاء، ولا بيانات تسعفهم. لنتأمل مثلا مؤشر عدد السجناء مقابل كل مائة ألف نسمة، حسب الإحصائيات التي يقدمها المركز الدولي لدراسات السجون حول أعداد السجناء في مختلف دول العالم.
لدينا في المغرب ما يفوق مائتي سجين مقابل كل مائة ألف نسمة، وتحديدا 218 سجين حسب آخر إحصائية متوفرة لدى المركز. بينما نجد عند جارتنا الجزائر 153 سجين لكل مائة ألف نسمة، وفي تونس 193 سجين لكل مائة ألف نسمة.
بالانتقال إلى الضفة الشمالية للمتوسط نجد في فرنسا مثلا 93 سجين فقط لكل مائة ألف نسمة، وفي إسبانيا هناك 122 سجين لكل مائة ألف نسمة. حتى في تركيا، ذات القبضة الأمنية القوية وتداعيات ما بعد المحاولة الانقلابية لسنة 2016 والحركة الانفصالية المسلحة… نجد 335 سجين لكل مائة ألف نسمة، وفي روسيا “الستالينية” نحصي 325 سجين لكل مائة ألف نسمة. أما في قراتنا الإفريقية فنجد فيها مثلا في دولة مثل جنوب إفريقيا حيث معدل الجريمة مرتفع، هناك 248 سجين لكل مائة ألف نسمة.
أخطر ما قدّمه التقرير الجديد لمندوبية التامك هو توقعاته الخاصة بالسنوات القليلة المقبلة، حيث “بشّرنا” بقرب تجاوز تعداد الساكنة السجنية ال120 ألف سجين، وتحديدا سنة 2028، وذلك عبر إسقاطات إحصائية تنطلق من التطور المسجل حتى الآن.
وبتطبيق الاسقاط نفسه على نسبة الأبرياء الذين تقودهم الساسة الجنائية إلى السجون، فإننا نتجه رسميا نحو مزيد من السجناء الأبرياء المظلومين، والذين لن يكون ذنبهم سوى في رقبة القائمين على وضع وتطبيق السياسة الجنائية.