story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

شرّرّرّ البليّة..

ص ص

لم أكن أدرك أن الأمر بهذه الجدية. صادفت الكثير من المحتوى الذي يشير بشكل أو بآخر إلى موضوع “شررر كبي آتاي”، لكنني لم أجد يوما ما يحملني على الاقتناع بالنقر والقراءة أو المشاهدة، بما في ذلك بعض المقالات “الجادة” التي صادفتها ولم أتجاوز سطرها الأول أو الثاني.
هو بالنسبة إلي نقاش لا يعنيني، معجبون بلون موسيقي معين في مقابل مستهجنين، ولا شأن لي بهؤلاء ولا أولئك.
لكنني صدمت أمس وأنا أطلع على خبر الحكم على شابين بسنتين سجنا نافذا، لأنهما “اقترفا” أغنية.
نعم، لسنا في العصور الوسطى ولا داخل فلم من الخيال، بل نعيش بالفعل واقعة محاكمة وسجن مواطنين لأنهما يغنّيان ما لا يعجب بعضنا.
في نهاية الربع الأول من القر ن الواحد والعشرين تتحرك قو مجتمعية وسلطات عمومية وهيئات قضائية، كي تحرم مواطنين من حريتهما ولمدة سنتين، لأنهما استعملا كلاما لا يعجبنا أثناء غنائهما!
يتعلق الأمر، بالنسبة لمن لا يعرف القصة، بشابين يحترفان غناء “الراب” أطلقا أغنية، قد لا يتفق البعض على هذا النعت لكنها بالنسبة إليهما أغنية، يقولان فيها عبارات وكلمات لا تستهويني شخصيا ولا تحملنا على الانصات بله الاستمتاع.
وحسب ما فهمته من محاولاتي المتكررة لفهم كلمات الأغنية، فإنهما وإن استعملا مزيجا موسيقيا مبتكرا يستلهم من فن أحيدوس إلى جانب الإيقاع الشبابي لهذا النوع من الموسيقيين، يتغنيان بطريقة “الروابة” بنمط حياة وأسلوب عيش، بنبرة متمردة ونقدية ورافضة كما هو الحال مع فن الراب عموما.
وفي أحد مقاطع الأغنية، يشير المغني إلى طريقة شاذة في ممارسة الجنس مع القاصرات، وهو الأمر المشين الذي لا يمكن فهمه أو استيعابه إلا من داخل منطق “الراب” أي أن المغني عموما هنا في حالة تعرية وبوح وتصريح صادم بواقع سيئ لا يرضاه ولا يقبله بالضرورة.
قامت الدنيا ولم تقعد بسبب هذه العبارة، والتي لم أكن أعرف بوجودها شخصيا إلا صباح هذا اليوم، لأنني كنت أعتقد الخلاف بين القوم عائد إلى عبارة “شرررر كبي أتاي” ولم أكن أفهم لماذا؟
لو أن الأمر بقي في إطار النقاش المجتمعي لما كانت هناك مشكلة بتاتا. من حق الناس أن تعبّر ومن حق الآخرين أن يتفاعلوا مع هذا التعبير بالاستحسان والاستهجان، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
لكن أن يتحوّل الأمر إلى نقاش قانوني وملف قضائي وأحكام قاسية بسلب الحرية، فهذا نذير شؤم وعلامة جديدة على انحدار خطير وغير مسبوق في كيفية تمثلنا لطريقة تنظيم عيشنا المشترك.
الأمر يتعلّق أولا بشكل من أشكال التعبير، وهو تحديدا تعبير فني. أن يعجبنا أو لا يعجبنا هذا شأن فردي وخاص بكل منا ولا دخل للقانون ولا الدولة ولا المؤسسات فيه، ولا دور لهم في تغليب هذه الكفة أو تلك.
أحد الشابين المتابعين قال في تصريح مقتضب قرأته له إن الأغنية لا ترمي إلى تشجيع تلك الأفعال، بل تحذر منها وتنبّه إليها، وأنا أصدّقه لأن المتهم بريء والبيّنة على من ادعى.
أما من يزعم أن مثل هذا التدخل يرمي إلى حماية القاصرين والجمهور الناشئ، فهو إما جاهل أو كسول.
لم يكن السجن يوما أداة في التربية والتنشئة. بل للأطفال والقاصرين آباء وأمهات وأولياء أمور عليهم أن يتحملوا مسؤولياتهم ويواكبوا صغارهم ويمارسوا رقابتهم على سلوكهم ونشاطهم، الواقعي منه والافتراضي.
لم تكن الشرطة ولا القضاء ولا السجن يوما أداة للتربية، ولا حق لأحد في مطالبتنا كمجتمع بتجنيد هذه الوسائل لحماية أطفاله بينما هو مستريح في منطقة “ولد وطلق” ولا يعتبر نفسه مسؤولا ولا معنيا.
المحتوى الذي ينشر عبر الانترنت اختياري وليس مفروضا على أحد، والأطفال يجب أن يبقوا تحت رقابة آبائهم، وتحت مسؤوليتهم، إلى أن يبلغوا سن الرشد والتمييز، ولا يمكن أن نطالب بتكميم الأفواه وسلب حرية الآخرين بدعوى حماية أطفالنا.
هذا النمط من التفاعل مع أشكال التعبير غريب ومستهجن ولا يمكن أن نطبّع معه. والفنون والآداب، الإنساني منها والمغربي، كانت دائما قناة لتصريف التعبيرات المختلفة بشكل حر ودون خوف من الطابوهات ولا المحرمات، حتى في أحلك العصور وأكثرها قهرا وتسلّطا على رقاب الخلق.
إذا كانت جملة قصيرة في أغنية شابين مبتدئين قد تحوّلت إلى نص مطروح على التأصيل والتأويل القانونيين فوق مكاتب القضاة، فإن على هذا المنطق أن يجيبنا كيف سنتعامل مع كل هذا التراث الفني الذي عبّر دائما عن ممنوعات ومحرّمات دون أن ينظر إليه أجدادنا وآباؤنا على أنه تحريض أو إفساد للأخلاق؟
لم يثبت يوما أن ما تغنّينا به ورقصنا على ايقاعه كان سببا في انحرافنا أو ارتكابنا للجرائم، بل إن ما يتم حاليا باسم حماية النظام العام والحياء ووو هو مجرّد تمكين لسلطوية باسم المجتمع، لا تقل خطرا عن السلطوية التي تمارس بمبرر زجر الإساءة للمسؤولين والمؤسسات.
تعالوا نحاول تطبيق هذا المنطق نفسه مع الراحلة الحاجة الحمداوية وهي تردد “با لحسن بشوية.. يمشي ويجي بشوية”، والفنان الستاتي وهو يهمس في أذن كمانه “غادي نحرق ونغامر على قبلك ايا لعمر”، والفنان بوشعيب الزياني وهو يردد: “الروج فالمالة شربي ودوشي.. جاو الجدارمية لوحي كولشي”.
ألن نضطر إلى العودة إلى تراث الملحون والغرناطي ومحاكمة الحاج التولالي رحمه الله، غيابيا، لغنائه عن “التفيفحات” و”الساق كاس بلاّر وروح الذات به انسقات.. من خمر الغرام العذب وروات…”؟ وإصدار مذكرة بحث دولية عن الشيخ المازوني الذي يصرّ على ممارسة إغرائه مشبها نفسه بترافولطا، رغم أن معشوقته تخبره أنها قاصر (مينور) وسنّها أقل من 18 سنة؟
بالله عليكم كيف لا نحرّك المتابعة القضائية حين تهتز أعراسنا وحفلاتنا “الحلاوة فين كاينة؟ بل نتراقص ونردّ “لحلاوة تحت لحزام.. حك وجر ويا لعور…”، وكل ذلك تحت حماية ومباركة وتأطير “المخزن” بقياده ودركه و”مخازنيته”؟
ألن نجد بمنطق التفتيش والتحقيق القضائي الذي حوكم به مغنيا “شررر”، في كل هذه المقاطع عناصر “جرائم” صريحة و”تحريض” و”اعترافات”؟
أليس بمنطق الإسقاطات القانونية على القانون والتعبيرات سنكون أمام التحريض على الفساد والسكر العلني والهجرة السرية وتضليل العدالة…؟
ألن نصبح مطالبين بمصادرة كل تلك الأغاني التي تغنينا بها جميعا عن “كبي وزيدي كبي” و”عاشرت الكاس وتركت الناس”؟
مضحكة فعلا هي هذه المقارنات، وقديما قيل: شررر البلية ما يضحك.