story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

قميص بركان

ص ص

عنوان هذا المقال هو عبارة منحوتة على وزن “قميص عثمان”، صادفته في جدار الصديق الخبير في التواصل، يوسف السيمو. العبارة عميقة الدلالة وتحقق أغراض تواصلية كثيرة، أهمها الترميز ومنح اسم لواقعة ستدخل سجلات التاريخ دون أدنى شك.
تستخدم العبارة عادة للدلالة على أحد إمرين: الأول هو الإشارة إلى شخص أو طرف يستعمل مظلمة ما مطية للوصول إلى أهداف شخصية، والثاني هو التعبير عن حالة يعمد فيها قائد أو زعيم إلى التذكير بمظلمة ما من أجل التحفيز والتعبئة لخوض المعركة، تماما كما فعل عمرو بن العاص في معركة صفين، حين أشهر قميص عثمان المدرج في الدم، أمام جنود معاوية لتذكيرهم بواقعة الاغتيال التي تعرض لها ثالث الخلفاء الراشدين ويحمّسهم على الاستقتال في مواجهة جيش علي بن أبي طالب.
بعد الانتباه إلى المعنى الذي يمكن أن تنطوي عليه عبارة “قميص عثمان”، لا مشكلة في استعمال عبارة “قميص بركان” للإشارة إلى واحد من أسخف الأحداث في العصر الحديث على الإطلاق، حين تتجند دولة بكامل هيلمانها لمنع فريق رياضي أتى أصلا بطريقة سخيفة بعد منعه من استعمال طائرة وطنية، من لعب مباراة مرتديا قميصه المعتاد بسبب تأويلات واستيهامات لا تقل سخافة.
سأترك الجوانب الرياضية والقانونية لحادثة “قميص بركان” لأهل الاختصاص، لأشير إلى التفصيل الأهم والأكثر دلالة، وهو خريطة المغرب.
الحقيقة أن ما جرى طيلة الأيام الثلاثة الماضية نقمة في طيها نعمة كبيرة، بأن وفّر أخيرا قناة تواصلية فعالة ليدرك جمهور واسع ممن يتابعون كرة القدم، جوهر الصراع، والخلفية الحقيقية لكل ما يجري بين المغرب والجزائر: إنه خلاف حدودي اعتلاه الكثير من “الخماج” وبات لابد من تعريته لتنظيفه وعلاجه، وإن تطلّب ذلك تحمّل بعض الألم أو إسالة بعض الدماء.
هنا لابد من تنبيه بعض العقول الصغيرة وهواة التسطيح و”التسنطيح”، الذين خرجوا في اليومين الماضيين مبتهجين بسقوط “أسطورة خاوة خاوة”، مرددين أن من يدافعون عن الوئام المنشود بين الشعبين اقتنعوا أخيرا بغياب الجدوى من ذلك، (تنبيههم) إلى أن الأمر ليس بهذا التبسيط، وأن الحلم بالعيش في استقرار وئام إقليمي لا يعني بالضرورة، كما تتوهم العقول الصغيرة، التفريط في الحقوق الوطنية ولا ضرورة التنازل عنها، تماما مثلما لا يعني الدفاع عن الوطن والإخلاص له، الدفاع عن السلطة والتطبيل لها.
هذه العقول التي لا تميّز بين الدولة والأمة ولا بين الوطن والسلطة، عليها أن تدرك أن المغاربة والجزائريين إخوة بالتاريخ والجغرافيا والدين والثقافة، وأن النعرات التي يتم النفخ فيها حاليا ستمرّ، وسيبقى هذا الإخاء حتمية مستقبلية سنصل إليها، سواء بالسلم أو بالحرب، لأن شعوب المنطقة تستحق النهضة والتنمية، وهما غايتان لا يمكن بلوغهما دون اندماج إقليمي.
بالعودة إلى موضوع الخريطة التي فجّرت قضية “قميص بركان”، أثارني وأنا أتابع تفاصيلها، عدد من المفارقات، من بينها أن تلك الخريطة التي “سعر” بسببها بعض الجزائريين، هي بالضبط الخريطة التي تتمناها وتسعى إليها الدولة الجزائرية، لأنها خريطة مغرب مفصول عن مجاله الشرقي الشاسع الذي ضمّته فرنسا إلى الجزائر في حقبة الاستعمار.
والخريطة نفسها التي خرج بعضنا للتعبير عن حماسته في الدفاع عنها، هي بالضبط الخريطة التي ينبغي لنا أن نرفضها عندما يتعلّق الأمر بالجزائر تحديدا، لأنها خريطة تنطوي على “حشية” تاريخية كبّدتنا إياها الجزائر حين حصلت منا على تنازلات ترابية مؤلمة، على أساس تجاوز عقدة الحدود والتوجه للمستقبل، باسترجاع المغرب لصحرائه الجنوبية وتحويل الحدود بين البلدين إلى خطوط وهمية غير مرئية بعد إطلاق مسارات الاندماج الاقتصادي.
نعم هي الخريطة المغربية نفسها التي تتمناها الجزائر وتسعى إليها وتوجه كل طاقتها لتثبيتها، لأنها تعني التنازل المغربي التام عن مطالبه الترابية في “الصحراء الشرقية”، وهي الخريطة التي يجدر بنا التحفظ عليها تجاه الجزائر، ليس لأننا نحنّ إلى ماضينا الامبراطوري، بل بكل بساطة لأن الصفقة التي تم بمقتضاها القبول بهذه الحدود جرى النكث بها من جانب الجزائر، حين عرقلت استرجاعنا للصحراء ثم عندما بادرت إلى استغلال حديد مناجم “غار جبيلات” الذي يملك فيه المغرب حقا قانونيا باستخراج 700 مليون طن داخل أجل محدد في ستين سنة، وفقا لاتفاقية الاستثمار المشترك لمنجم غار الجبيلات التي وقّعت على الطاولة نفسها التي وُقّعت عليها اتفاقية رسم الحدود سنة 1972، وتم التصديق عليها ونشرها في الجريدة الرسمية للجزائر.
على الخائضين في لعبة التمكين لمشاعر الكراهية والبغضاء بين الشعبين الجزائريين أن يكفوا عن لعبتهم هذه، وعلى المسؤولين والسياسيين في المقابل أن يتحلوا بالشجاعة الكافية لطرح الخلاف الحقيقي فوق الطاولة، وفتح النقاش اللازم حوله، بما في ذلك مساءلة القرار الرسمي الوطني المتعلّق بالحدود والوضع الترابي للمملكة، ولنتساءل بصراحة: هل أخطأنا عندما قبلنا تلك التنازلات الترابية الأليمة لفائدة الجزائر؟ أم أننا لم نخطئ وفقا لمعطيات ومخاطبي ونخب تلك الحقبة، لكن لابد لنا اليوم من مراجعة مواقفنا واختياراتنا؟
إن نقل الصراع العلني بشكل واضح إلى المشكلة الحدودية، بل وحتى خوض المعارك، ولم لا الحروب اللازمة لحسمه، أهون وأقل ضررا من تعويم الخلاف وإغراقه في بحيرة الكراهية كما يتم حاليا.
خلاف حدودي بين دولتين يظل خلافا يدبّر ويُنظر إليه وتتمثله الشعوب كخلاف سياسي، لكنه لا يورّث بالضرورة هذا النهر الجارف من التعصب والشوفينية الذي يتدفق على المنطقة، ويخدم استمرار حالة التخلف والارتهان لأجندات دولية لا يهمها في النهاية حسم خلافات ولا تحقيق تنمية.
“قميص بركان” قد يكون فرصة لنقل الصراع إلى دائرته الحقيقية إن نحن انتبهنا إلى التفصيل المرتبط بالخريطة، بعيدا عن أسلوب “ألي سي براهيم!”