story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

“الكيف” الوطني

ص ص

لدينا مشكلة كبيرة في مقاربة الإصلاحات وحل المشكلات، كوننا ننساق للعاطفة وردود الفعل ونستجيب للإثارة، فننخرط بقوة وحماس، لكننا سرعان ما ننسى ونتصرف كما لو أن شيئا لم يحصل، وهو ما يسمح للأطراف المنظمة وذات المصالح الكبيرة بتوجيه النقاشات وترويض المجتمع لاستمرار نفوذها ومصالحها.
من منا يتذكر اليوم ذلك النقاش البيزنطي حول تقنين زراعة القنب الهندي، وما رافقه من عنتريات واستدعاء للدين والإيديولوجيات…؟ ها نحن اليوم ندخل نادي الدول المصدّرة للمواد المستخلصة من هذه “النبتة المحرّمة”، ونمضي بثبات في اتجاه تحويل (جزئي) لمشكلة اجتماعية واقتصادية وأمنية، إلى فرصة للدولة والمجتمع.
إذا كانت هناك أشياء كثيرة في بلادنا لا تسير في الاتجاه الصحيح، وينبغي لنا الوقوف عندها بإثارة النقاش والكشف والفضح والصراخ، فإن الأشياء التي نتقدم فيها بنجاح، وإن كانت قليلة أو نادرة، تستحق (ربما أكثر) أن نجلس لتسجيلها وترصيدها ولم لا التصفيق لها وتشجيعها، كما يجري الآن من “ثورة” بكل معاني الكلمة، في فصل علاقتنا بنبتة “وطنية” عن رواسب الماضي، وإخراجها من ضيق الاستغلال المجرّم، والتمثل المنحرف، إلى رحابة الاستثمار والتوظيف المفيد.
فالمناطق التي حدّدتها الوكالة المختصة لممارسة الزراعة القانونية لهذه النبتة، تقع في المناطق نفسها التي انتشرت فيها حقول القنب الهندي تاريخيا، أي أن جزءا من المساحات المزروعة بهذه النبتة ستنقل من سوق المخدرات إلى سوق الأدوية وبعض الصناعات؛ وحتى المشاريع الصناعية التي ستتولى تحويل هذه النبتة ستقام في هذه المنطقة، أي أنها ستوفر فرصا للشغل وقيمة مضافة وتعويضا لمهن أخرى ترتبط بالنشاط غير المشروع في مجال القنب الهندي.
ويتعلّق الأمر بحسب تقديرات رسمية بما يناهز نصف مليون مغربي ومغربية، يمارسون أصلا أنشطة مرتبطة بزراعة القنب الهندي، أي حوالي 60 ألف أسرة. لكن بقاء هؤلاء خارج دائرة القانون يحوّلهم إلى جماعة من “المطاريد” الهاربين من العدالة، ويد عاملة رخيصة في سوق تمنحهم الفتات قبل أن يقفز رقم معاملاتها إلى أكثر من 11 مليار أورو في سوق المخدرات الأوربية.
اليوم نحن أمام أخبار تتوالى منذ نهاية 2023 حول الدخول في المراحل النهائية لتفعيل ورش إصلاحي كبير يتعلّق بتقنين زراعة واستغلال نبتة القنب الهندي، عنوانه حصيلة أولى من التراخيص الممنوحة من طرف الوكالة الوطنية لتقنين الأنشطة المتعلقة بالقنب الهندي، والتي فاقت 600 ترخيص، يتعلّق الجزء الأكبر منها بفلاحين باتوا ولأول مرة في تاريخ المغرب المستقل (لأن المنع التام لهذه الزراعة وقع قبيل الاستقلال)، يحرثون أراضيهم ويحصدون غلة “الكيف”، في واضحة النهار، وفي ظل القانون، وبتوجيه كامل لمنتوجهم نحو نشاطات صناعية وتحويلية مفيدة مشروعة.
ويكفي أن نعلم أن أقصى ما كان يممن للهكتار الواحد من نبتة القنب الهندي أن يدره على الفلاح المغربي، هو 75 ألف دهم في السنة (قد ينخفض إلى 16 ألف درهم)، بينما تشير الدراسات التي جرت تمهيدا للتقنين إلى أن الدخل الصافي للفلاح سيصل إلى 110 ألف درهم سنويا.
بل إن الجريدة الرسمية التي أمطرها المشرع في النصف الأول من القرن الماضي بقوانين الحظر والمنع والمحاصرة تجاه جميع أشكال التعاطي لزراعة هذه النبتة، تضمّن في الأسبوع الماضي صورة ومواصفات الرمز الذي سيصبح بمثابة علامة “زُرع في المغرب”، والتي ستجوب العالم بدءا من هذه السنة، مميزة منتجات مشتقة من القنب الهندي المغربي، دون أن ينتهي بها الأمر في تقارير المنظمات الدولية حول المخدرات التي “يُغرق” بها المغرب أسواق العالم.
فحسب الزملاء في “ميديا24″، قام المغرب يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع (09 أبريل 2024) بتصدير أول شحنة من مستخلصات القنب الهندي المغربي، والتي تقدّر بثلاث كيلوغرامات، عبرت لأول مرة في تاريخ هذه النبتة “الوطنية” بشكل قانوني ومعلن أمام مصالح الجمارك لتصل إلى زبون أوربي (سويسري) سيقوم باستعمالها لأغراض طبية أو غذائية، علما أن الوكالة المختصة رخّصت حتى الآن عشر منتجات مغربية وبات الإمكان تداولها في سوقي المنتجات الطبية والغذائية بكل وضوح.
في سياق آخر كان علينا أن نحتفي بمثل هذه الخطوات، ليس لأنها تحقق طفرة اقتصادية وتنموية باهرة، بل لأنها تحقق أهم من ذلك: طفرة ثقافية في علاقة مجتمع مع نبتة ظل يعمل على زراعتها واستعمالها في أنشطة تجري تحت جنح الظلام طيلة عقود، إن لم يكن ذلك منذ أكثر من قرن بما أن أول “ترخيص” بحرث نبتة الكيف يعود إلى عهد السلطان الحسن الأول.
فتقنين زراعة القنب الهندي يعني وصول كمية أقل من هذه النبتة إلى سوق المخدرات، وإخراج عدد من المواطنين من العتمة الى النور كما هو الحال اليوم مع 430 فلاح الذين حصلوا على ترخيص بالزراعة، مع مردودية اقتصادية واجتماعية تخدم الصالح العام بما أنها تتم في إطار القانون وبالتالي ستنتج ضرائب ورسوما وأرباحا قانونية يمكن لأصحابها ايداعها في حساباتهم البنكية وبالتالي ضخها في الدورة الاقتصادية.
لقد ثبت اليوم أن من كان يرفض هذا التقنين هو بالفعل إما تاجر مخدرات، أو موظف يحصل على الرشوة من هؤلاء التجار، أو مؤدلج يقوم بتوظيف ديماغوجي لفكرة ارتباط النبتة بالمخدرات، لغايات سياسوية.