story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ربنا يسهل عليكم

ص ص

لا أعرف ما إذا كان أدعياء الوصاية والعطف على الفلسطينيين من قسوة قادة “مقاومة الفنادق” قد باتوا ليلتهم الماضية سعداء مسرورين، بعدما أهداهم الاحتلال الإسرائيلي جثث وأشلاء ثلاثة من أبناء رئيس المكتب السياسي لحركة “ح.م.ا.س” إسماعيل هنية، هم محمد وأمير وحازم، مرفوقة بأطراف وبقايا جثث أبنائهم آمال وخالد ورزان؟
ولا أدري صراحة كم من أنهار الدماء ينبغي أن تتدفق، ومن ابتسامات الأطفال البريئة ينبغي أن تُغتال، ومن الأمهات المكلومة عليها أن تخرج على “قلوب الحجر” والضمائر الميتة، وهي صابرة متماسكة وملوحة في وجوهنا جميعا بمنديل العار: أن “نحن الأحياء وأنتم الميّتون”؟ حتى يقتنعوا أن المعركة الجارية تختبرنا وتمتحننا، ليس في شجاعة الانخراط فيها وخوض غمارها، بل في جانب بسيط وحاسم في الوقت نفسه: أن تكون انسانا أو لا تكون.
ها هي ذي إسرائيل المجرمة القتّالة المناورة نفسها تسقط في أيديكم أسطورة زعماء المقاومة الذي يضحّون بشعبهم ويتركونه في مواجهة نيران وصواريخ الجيش الذي يقهر، بينما يتمتعون وأبنائهم بغرف الفنادق المكيّفة في العواصم المخملية، فماذا أنتم قائلون؟
إلى من كان في قلبه زيغ، واحتاج إلى أشلاء من نسل أحد قادة المقاومة الفلسطينية في الخارج كي يفهم ويقتنع، تصوّر ألا تكون فقط مجبرا على مقاتلة وحش متعطّش للدم، لا يعرف الشفقة ولا الرحمة، ولا يميّز بين مدني وعسكري، لا بل عليك أن تقاتله بيد وتفاوضه بأخرى. وبينما تفاوضه أنت بجنوده وأسراه المحتجزين لديك، معززين مكرمين، يفاوضك هو بأشلاء وجثامين أبنائك وأحفادك.
تخيّل أن الخصم الذي تحاربه في الميدان لا يفاوضك بتحريك القوات والتموقع في الميدان والاستخبارات وقوة الجو والبحر والفضاء، واللعب بأوراق الدبلوماسية والتحالفات الإقليمية والدولية، بل يلعب برؤوس أهلك وذويك في قعر بيتك، ويأتي بعد ذلك من يفتح فمه الوسخ ويتجرأ على قادة المقاومة والمتصدرين للنضال، الحاملين لأرواحهم فوق أكفّهم استعدادا لتقديمها قربانا للقضية.
تصوّر أن تكون أبا وجدا، وتكون هديّة أبنائك وأحفادك قنبلة تسقط فوق سيارتهم صبيحة يوم عيد، بدل العيدية التي يتخيّلك البعض بصدد توزيعها عليهم في صالونات مخملية مكيّفة. وألا يأخذ منك الموقف أكثر من ثانيتين تغلق فيهما عينيك لتستوعب الخبر ثم تعلنها مزلزلة: “الله يسهّل عليهم”.
قالها هنية بعدما قالها قبله الدحدوح: “ما عليش”.
وبعد الاعتزاز ب”شرف الزمان وشرف المكان وشرف الخاتمة”، يعود الأب المكلوم إلى خندق مقاومته السياسية: “لا فرق بين أبنائي وأبناء الشعب الفلسطيني”.
أدرك إسماعيل هنية لحظتها، كما أدرك ذلك الفلسطيني المشرد في شاطئ غزة منتظرا صاروخا من السماء، أن العدوّ يفاوض فوق جثث الأبناء والأحفاد، ويقول لزعماء المقاومة في الخارج أن أرواح ذويكم ستقطف تباعا ما لم تتنازلوا وتخضعوا في طاولة التفاوض.
لقد قلناها منذ البداية ونعيدها اليوم: ما يجري في غزة لا يعني الفلسطينيين وحدهم، بل يعنينا أيضا، ويختبرنا ويمتحننا ربما أكثر منهم، وسيكون له ما بعده عندنا، لسبب بسيط: هؤلاء الذين يقتّلون ويذبّحون أخوتنا، منا وإلينا، إن لم يكن في دين أو ثقافة أو هوية، ففي بقايا إنسانية لا يمكن أن يزعم أي كان تجريدنا منها مهما بعدت المسافات ودبّجت المبررات وتراكمت الاغراءات.
معركة غزة تجري عندنا أيضا بمعنى القدرة على الاتزان في الموقف والموضوعية في الحكم والشجاعة في الاختيارات، لأن الأمم والأوطان لا تبنى بالصفقات والتحالفات والمناورات فقط، بل تبنى أولا بالمواقف والاختيارات. والمغاربة أعلنوها منذ اليوم الأول ويعلنونها كل يوم: لسنا خارج التاريخ ولا عديمي الضمير ولا تجّار عقارات!
ولنلاحظ كيف أن تركيا وحدها من بين دول المنطقة تفاعلت مع جريمة إسرائيل الجديدة في حق أبناء أحد قادة المقاومة الفلسيطينية، حيث قالت الرئاسة التركية، إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قدم تعازيه لرئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية، في مقتل أبنائه وأحفاده جراء هجوم إسرائيلي على غزة، وأن الرئيس رجب أردوغان قال له إن إسرائيل ستُحاسب حتما أمام القانون على الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها.
ثم أعرب وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، عن تعازيه لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، في استشهاد 3 من أبنائه وبعض أحفاده بغارة إسرائيلية على قطاع غزة، خلال اتصال هاتفي جرى بينهما في يوم الجريمة نفسه… بينما لم نسمع من قادة وأنظمة المحيط العربي لفلسطين، حتى كلمة عزاء.
تنتظرون مني أن أقول إن تركيا أكثر شجاعة ونبلا ومبدئية من باقي الدول العربية والإسلامية؟ كلا، بل إنها أكثر ديمقراطية، وحكامها ذاقوا قبل أيام قليلة عقاب الشعب في الانتخابات المحلية التي خسر فيها أردوغان وحزبه مدنا وبلديات عديدة، بعضها يتمتع برمزية خاصة.
هذه الجرعة الزائدة من الديمقراطية لدى الأتراك مقارنة بإخوة الفلسطينيين العرب، والتي خرج الشعب التركي ذات ليلة ليحميها بالصدور العارية في مواجهة الدبابات الانقلابية، هي التي تفسّر هذا الاختلاف.
معركتنا في النهاية واحدة، هنا في المغرب وإلى أقصى هذه الرقعة التي يوحدها سلوك القوى الدولية في أطراف العراق وايران، هي معركة نهوض وانعتاق وحرية.
وأن تكون اليوم مع غزة وحق غزة، معناه أنك على الأقل، تملك جرأة الاحتفاظ بحقك في الحلم بالديمقراطية والحرية.
عزاؤنا لا يكفي لأهل فلسطين أمام كل هذه الأرواح التي يقدمونها لتبقى شعلة الحرية مشتعلة في هذا العالم المنكوب، ولا نملك سوى أن نقول لهم ما قاله هنيّة لأبنائه الشهداء: ربّنا يسهّل عليكم.