story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ملتمس الرقابة آ حنيني!

ص ص

لم يعد هناك من شك في أن جيل ما بعد “الربيع العربي” ودستور 2011 يستحق كل الشفقة والعطف، لما نشأ عليه في السياسة والتدبير والتمرّن على ممارسة الديمقراطية. ولن يكون بالإمكان بعدما جري اليوم في قصة ملتمس الرقابة المغبون، أن نتهم بالحنين إلى الماضي وتقديسه. تعالوا بنا نقوم بإطلالة سريعة على التجربتين اليتيمتين في الممارسة البرلمانية للمغرب، مع ملتمسات الرقابة، ثم نعود للنظر في المبادرة المطروحة حاليا في مرآتهما:
في العام 1964، كان الأمر يتعلق بسياق سياسي وطني وإقليمي ودولي خاص، خرج فيه المغرب للتو من حرب الرمال ضد الجزائر، والقوى الدولية تتنافس حول كعكة اقتصاده الناشئ بعد الاستقلال، والهندسة الدستورية والمؤسساتية في طور التشكل والخروج من رحم صراع مرير بين القصر وأحزاب الحركة الوطنية…
ويمكن للأجيال الحالية، لحسن الحظ، أن تعود إلى تسجيلات مصورة لجزء من الجلسات التي احتضنها مقر برلمان كان عبارة عن إحدى قاعات كلية الآداب في الرباط، ويتفرج على رئيس فريق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، اللطيف بنجلون، وهو “يتبورد” على با حنيني، وما أدراك ما با حنيني، وخلفه في مقعد الرئاسة عبد الكريم الخطيب، وكيف تواصل النقاش الذي سبق تشكيل ذلك البرلمان حول الدستور، شكلا ومضمونا، وكيف تناوب على المنصة سياسيون أمثال عبد الرحيم بوعبيد وعبد الخالق الطريس ومحمد الحبابي والمعطي بوعبيد، واستمرّ النزال خمسة أيام اهتزت فيها أغلبية أولى حكومات دستور الحسن الثاني بفعل المواقف النقدية القوية لنواب الحركة الشعبية المحسوبين عليها…
تابع المغاربة يومها عبر شاشات التلفزة وعلى أمواج الإذاعة نقاشا سياسيا باذخا، جلدت فيه المعارضة المتمتعة بشعبية ومصداقية كبيرين وزراء الحكومة (وزراء الملك)، وسمعت فيه بدورها اتهامات بخدمة أجندة خارجية (جزائرية) ومطالب بالتبرؤ من مواقف المهدي بنبركة وحميد برادة من حرب الرمال… ودار نقاش طويل حول الاختيارات الاقتصادية للمغرب، بين حكومة تدافع عن سياساتها، مدعومة بجبهة صديق الملك، محمد رضا اكديرة المدافعة عن “المؤسسات”، ومعارضة تتهمها بالخضوع لإملاءات الرأسمال الأجنبي وخدمة مصالحه والمساس بقوت المغاربة من خلال الزيادة في سعر السكر…
لم تتمكن المعارضة المشكلة وقتها أساسا من النواب الاتحاديين وزملائهم الاستقلاليين، على الرغم من الانشقاق الحديث الذي فرّق بينهما، من إسقاط الحكومة، وحصلت على ستين صوتا من أصل 73 التي كانت تحتاج إليها كأغلبية مطلقة لسحب الثقة من الحكومة، لكن الواقعة كانت لها دلالاتها وتداعياتها، حيث سارع الملك بعدها إلى تعديل حكومته، وتواصلت التجاذبات إلى أن اضطر لإعلان حالة الاستثناء
أما في 1990، ففي سياق يتسم بانعكاسات سياسات التقويم الهيكلي، وشروع الملك الراحل الحسن الثاني في خطوات الانفتاح السياسي التي مهّد بها لانفراج التسعينيات، كانت القوى السياسية الأساسية في المجتمع، وهي أحزاب الاتحاد الاشتراكي والاستقلال والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، تعرض أمام جلسة عامة لمجلس النواب انعقدت في ماي 1990 ملتمس الرقابة، ضد حكومة عز الدين العراقي، ممهورا بتوقيعات 82 نائبا، يحتجون من خلاله على سياسات اعتبروها املاءات صادرة عن المؤسسات المالية والنقدية الدولية، وتمكينا لفئات مستفيدة من الريع والامتيازات…
يمكن أيضا للأجيال الحالية أن تتابع بعد بحث قصير عبر محركات البحث في الانترنت، تسجيلات خطب زعامات حزبية وسياسية وهي تحاكم سياسات الحكومة، ومن خلفها الملك، في الاقتصاد والحريات والحقوق الاجتماعية والثقافية… يمكن مثلا أن نتفرج على زعيم مثل علي يعتة وهو يدعو الحكومة إلي الرحيل وتخليص المغاربة “من همّها وغمّها”، وطيب الذكر فتح الله والعلو وهو “يطنز” على الاختيارات الاقتصادية للحكومة ويكشف ثغراتها وعيوبها.
في 1964 كما في 1990، كان تقديم ملتمس الرقابة مسنودا بسياق سياسي وتراكم في الصراع والمواجهة، يجعله بالفعل حدثا ومناسبة لإطلاق ديناميات جديدة، يبدو أنها كانت تفيد الدولة نفسها ولا تضعفها. كان الحسن الثاني وهو المقصود والمستهدف ظاهريا بملتمسي الرقابة في الحالتين الوحيدتين المسجلتين في سوابق المغرب، يبدو كما لو كان في حاجة إليهما ليتمكن من فتح مسارات وخيارات جديدة.
كانت الخطوتان مندرجتان بوضوح في سياق مقاومة واضحة من جانب المغرب لضغوط خارجية ومساع لإحكام القبضة على اقتصاده وثرواته وخيراته، وفي إطار مخاض داخلي يبحث فيه طرف على منافذ لتوسيع “الهامش الديمقراطي” وانتزاع تنازلات جديدة من الملك لصالح المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا وعلى رأسها البرلمان، فيما يدافع طرف آخر عن مصالحه وامتيازاته.
سقطت الحكومة ومعها البرلمان بعد الملتمس الأول في الستينيات، وعاش المغرب حالة فراغ مؤسساتي وسياسي أعقبتها محاولات انقلابية دموية، لكنها فاشلة لحسن الحظ، ثم جاء الانفتاح الأول الذي ساهم فيه فتح ملف الصحراء وتنظيم المسيرة الخضراء. وجاء الملتمس الثاني بداية التسعينيات في بداية مسار من التفاوض المباشر بين الملك والمعارضة، والمذكرات المطلبية التي قدمتها أحزاب الكتلة الديمقراطية، التي ضمّت الأحزاب المبادرة إلى تقديم ملتمس الرقابة، وجاء تعديلان دستوريان وتناوب مجهض ثم آخر “توافقي”…
أعتذر منكم بعد هذا التحليق الشاهق في سماء التاريخ، أن أنزل بكم إلى حضيض الحاضر: ما سياق وخلفيات ورهانات الحديث عن ملتمس الرقابة هذه الأيام؟ ومن هم الزعماء والنواب البرلمانيون والوزراء الذين كانوا سيناقشونه لو كتب له النصاب اللازم لتقديمه؟ وبأي مضمون وأية مشاريع سياسية وأية مطالب كانت سيتغذى هذا النقاش؟ هل بحزب الاتحاد الذي عاش على أمل البقاء في “التركيبة الرباعية” السابقة لأخنوش في حكومته الحالية، إلى غاية الثلاثة أيام السابقة لانتخابات 8 شتنبر، وألقى حتى وقت قريب خطاب “خذوني لله غير خذوني”، سنحول الجلسات البرلمانية إلى محاكمة للحكومة؟
رحم الله با حنيني وعز الدين العراقي، وهنيئا لأخنوش بأضعف معارضة في تاريخ المغرب المستقل.