story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

أطباء شعب الفقراء

ص ص

مخيف حقا ما يحصل مع طلبة كليات الطب والصيدلة. بعد ضياع نصف السنة الدراسية بفعل الإضراب المفتوح عن الدراسة وعجز الحكومة عن معالجة الموضوع، بات أطباء وصيادلة المستقبل، مضطرين إلى اصطحاب محامين إلى كلياتهم التي كان يفترض أن يتلقوا فيها دروس وتمارين تؤهلهم لتحقيق ما تزعن الحكومة أنها تسعي إليه من توفير للخدمات الصحية العمومية لجميع المغاربة.
إذا كان القائمون على تدبير الشأن العام حاليا لا يدركون خطورة ما ينصبونه من “مشانق” في المجالس التأديبية وما يهدمونه من أسس التعايش السلمي، دعونا نخبرهم: ضمان السير العادي للدراسة والتكوين في الجامعات والمعاهد العمومية واجب ومسؤولية الدولة، وإنهاء حالة من الاضطراب الاستثنائي في سير الدراسة في كليات الطب والصيدلة لا يعني كسر الجرة فوق رؤوس الجميع.
هل نحتاج إلى التذكير بكون ما يجري حاليا مع أطباء وصيادلة المستقبل هو حلقة جديدة في مسلسل عشناه سابقا مع المحامين، سواء منهم الممارسين أو الذين كانوا يجتازون مباراة الحصول على الأهلية لممارسة المهنة؟ هل من الضروري أن نذكر كيف أن الحكومة أبانت عن استهداف صريح وواضح لهذه المهنة التي تعتبر واحدا من آخر معاقل الضمير واليقظة المجتمعيين؟
ثم هل من الضروري استدعاء الكارثة التاي عاشتها المؤسسات التعليمية هذه السنة مع الإضرابات المفتوحة التي أضاعت عن الملايين من أبناء المغاربة نصف السنة الدراسية بين اضراب وتجاهل و”غنان” حكومي؟ هل سنكون متحاملين إذا قرأنا في كل ما يحصل مؤشرات لعجز وفشل حكوميين، وافتقاد كامل لآليات التدبير السياسي لما يفترض أن يكون إصلاحات تتطلب قدرا معينا من الطمأنة والإشراك والإقناع؟
كيف يعقل الآن أن الحكومة التي تزعم أنها تسعى إلى تخريج عدد أكبر من الأطباء لتدارك الخصاص المسجل في البنيات الصحية الوطنية من الموارد البشرية، هي نفسها التي تمضي نحو التضحية يجيل كامل من أطباء المستقبل، من خلال التهاون في حل مشكلة لا يبدو أنها معقدة إلى في ذهن أصحاب العقلية التسلطية والرافضين لمنطق الحوار والإقناع والتشاور.
زعماء أحزاب سياسية استقبلوا ممثلين للطلبة الأطباء وسمعوا منهم مباشرة استعدادهم الكامل للقبول بفكرة تقليص سنوات الدراسة شريطة اتخاذ ما يلزم من إجراءات مواكبة لضمان استفادتهم من التكوين نفسه الذي كان أطباء المغرب يحصلون عليه في السابق خلال سبع سنوات وحماية مسارهم الدراسي والمهني، وأنباء لم تكذبها الحكومة عن منع لقاء كان يفترض أن يجمع ممثلي هؤلاء الطلبة بمجموعة من البرلمانيين.
على الذين يعتقدون أنهم ينفذون “إصلاحات” رافعين فزاعة “المشروع الملكي” في وجه الخائفين علي مستقبلهم، أن يعلموا أنهم بصدد تخريب أعز ما يحرص الملك على صيانته، وهو الدستور كوثيقة جاءت ذات ربيع أولا من أجل حماية الحقوق والحريات الأساسية التي ناضلت من أجلها أجيال من المغاربة، وعلى رأسها الحق في التنظيم والتظاهر والاحتجاج.
فصول الدستور التي تنص على الخيار الديمقراطي وحق المغاربة في التعبير والتنظيم في شكل جمعيات، وحقهم في الاحتجاج وعدم التعرض لانتهاك الحقوق، هي أيضا، بل هي أولا، مشاريع ملكية ومكتسبات لا رجعة فيها ولا يمكن للمغاربة أن يسمحوا بأي شكل من الأشكال بالمساس بها، بجرة قلم موظفين برتبة “رئيس جامعة” أو وزير، سواء لحل جمعيات ونواد طلابية أو لجرجرة مجموعة من خيرة أبناء المغاربة نحو المجالس التأديبية تماما كما كانت يجري في سنوات الجمر والرصاص.
ما يحصل في قطاع الصحة، من أفعال وقرارات، وليس الأقوال والخطابات، لا يحمل على الاطمئنان. والمخاوف من السعي إلى تحويل مرض المغاربة وتأمينهم الصحي إلى دجاج يبيض ذهبا في سلال الرأسمال الجشع، تتعاظم بما أن مشروع تعميم التغطية الصحية وتحسين العرض الصحي، يجري في وقت تسابق فيه أيدي الرأسمال الخاص الزمن لاعتراض هذه الكعكة المالية التي يجري تجميعها من صناديق توفير اشتراكات الكادحين ومن جيوب المشمولين الجدد ب”الحماية الاجتماعية”.
ألا تشاهدون وتسمعون حاليا وصلات إشهارية لعلامة تجارية خاصة تستثمر في المجال الصحي، تصوّر مشروع الحماية الصحية وانتقال جزء من حاملي بطاقة ” راميد” إلى نظام التغطية الاجبارية عن المرض، الذي يوصف بالملكي ويقدم على أنه نوالة للدولة الاجتماعية، كما لو أنه مجرد خطوة إجرائية صغيرة ترمي إلى توجيه المرضى المشمولين حديثا بالتغطية الصحية من جيوبهم وصناديق المال العام، ليصبحوا “زبناء” لديها؟
ما الذي يمنع اليوم في ظل تكشير السلطة عن أنيابها، وانتقالها الفج إلى أسلوب كسر العظام وحل الجمعيات ونوادي الطلبة وتوقيف المتصدرين لزعامة الحركة الاحتجاجية لطلبة الطب والصيدلة عن الدراسة، من الشك في وقوف الرأسمال الخاص الجشع وراء توظيف أدوات الدولة لمنع أطباء الغد من استكمال مسار تكوينهم في الخارج وتحويلهم إلى يد عاملة رخيصة في بنياته الصحية الجاهزة لتلقي أموال التأمين الصحي؟
إن التفريط الجاري في ما تبقى من ثقة بين القرار العمومي والمجتمع، يعني إحداث ثقوب جديدة في السفينة، وتسريع وتيرة الإنهاك والقتل الذي تتعرض له الطبقة المتوسطة، وايذان بتطبيق مفهوم خاص ل”الدولة الاجتماعية”، يحول المغاربة جميعا إلى أجراء وفقراء ومتسولين للصدقات التي يجود بها عليهم ذلك الواحد في المئة المحظوظ الذي ذكّرنا به التقرير الأممي الأخير حول التنمية البشرية.