story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

علّقوا الفقيه..

ص ص

دخلنا حاليا فترة العشر الأواخر، لا أقصد شهر رمضان، بل أقصد المهلة التي حددتها الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة بشأن تشكيل هيئة مكلفة بتحضير تصور خاص بتعديل مدونة الأسرة.
ستة أشهر على انطلاق هذا المسار تنتهي متم شهر مارس الحالي، أي أن الأسبوع المقبل سيعرف تقديم خلاصات عمل هذه الهيئة، أو التمديد لها لوقت إضافي، كما حصل مع لجنة العام 2003.
في جميع الأحوال لا يُنتظر أن يسفر هذا المسار عن مفاجآت أو تحولات خارقة. هامش الحركة ضيق جدا ومؤطّر بخطب ملكية ورسالة رسمية تجعلنا مقبلين على تدخلات جراحية تتعلق بزواج القاصرات وولاية الأم على أبنائها وربما بعض التدقيق في مساطر الطلاق والتطليق، وتقييد أو منع زواج القاصرات، وأقصى ما ينتظر تحقيقه من تطوّر يتعلق بالتعصيب في الإرث.
الرهان ليس كبيرا إذن في موضوع “الإحالة” الملكية نفسها، خاصة أن مواقف والتزامات الدولة المغربية في جميع النقط الخلافية معروف سلفا وموثق في سجلات الهيئات الدولية والأممية. لكن التجربة التي عشناها في الشهور الستة الماضية، عرّت واحدا من أعطاب الدولة الخفية أو المسكوت عنها: حجم ودور الفاعل الديني في هياكل الدولة ودواليب قرارها.
ليس هذا تركيزا مبالغا فيه على دور أحد أطراف العملية التشاورية المتعلقة بمراجعة المدونة، بل بعنصر شديد الأهمية وبالغ الحساسية في فهم وقراءة سلوك وأفعال النظام السياسي المغربي.
نحن أمام تدبير استثنائي من خارج الهندسة الدستورية والمسطرة التشريعية القائمة، بما أن نص الدستور أدرج بكل وضوح موضوع الأسرة ضمن مجال القانون الذي يختص به البرلمان بشكل حصري، وبالتالي لا ينبغي أن “نطبّع” مع خطوة التدخل الملكي للإشراف على هذه العملية، دون أن نستحضر ما يحمل الدولة على مثل هذا التعاطي الاستثنائي مع الموضوع: أهمية الدين في شرعنة السلطة.
لا أدري حقيقة هل نحتاج إلى التذكير بكوننا نعيش في حالة ما قبل الديمقراطية، كي لا نقول شيئا آخر، وبالتالي تستمر حاجة الدولة إلى روافد أخرى، غير التمثيلية الديمقراطية، لإسناد شرعيتها وتثبيت أركانها. هذا وصف موضوعي وليس تنظيرا. فأنا شخصيا لا أرى سبيلا إلى النهوض وإقامة الدولة العصرية القوية والمتقدمة خارج الاختيار الديمقراطي. لكن في انتظار ذلك، يهمنا جميعا استقرار الدولة وثبات سلطتها، بما أنها سقف بيتنا جميعا.
هناك مؤسسة إمارة المؤمنين التي تحوز هذه الشرعية الدينية وهي من يتولى تدبير ورش مثل مراجعة مدونة الأسرة، لكن أعمدة هذه المؤسسة هم العاملون في الحقل الديني، من علماء وأئمة ووعاظ… وأهم ما أفرزه لنا مسار النقاش الرسمي حول مراجعة المدونة، هو هذا الشرخ الكبير بين هؤلاء وباقي مكونات وأدوات اشتغال الدولة.
لا يمكننا التغاضي عن هذا الخصاص الكبير الذي كشفته هذه التجربة لدى عموم المواطنين من حيث الاقتناع بانسجام الخطوة الإصلاحية المرتقبة مع ما يعتبره غالبية المغاربة ثوابت دينية. خصصنا في هذه المؤسسة الإعلامية جل حواراتنا منذ بداية رمضان لهذا الموضوع، وهو ما كشف لنا حجم الطلب والتعطش الكبيرين لسماع رأي المختصين في الدين وعلومه، بينما يلتزم هؤلاء صمتا مريبا.
في المقابل، تعبّر الدولة بوضوح عن سعيها إلى ممارسة ضغط كبير على علمائها الدينيين لحملهم على الخروج من “منطقة الراحة” والخوض معها في تدبير التطورات والمستجدات التي تحتّم التغيير، إما بالمشاركة المطيعة أو التزام الصمت. وهي محقة في هذا المسعى، لكنها مخطئة في الطريقة.
لا يمكن للدولة التي سيّجت الحقل الديني وأحكمت إغلاق أبوابه على المشتغلين فيه ومنعتهم من الاشتباك مع قضايا المجتمع بمبرر عدم “تسييس” الدين، وحالت دون خلق مؤسسات علمية ودينية حية ونشيطة ومتفاعلة، كما كان يفترض أن تكون دار الحديث الحسنية ورابطة علماء المغرب مثلا، أن تأتي اليوم لتحاول الضغط على علمائها بهذا الشكل الذي نلاحظه في مسار تعديل المدونة والدرس الحسني الافتتاحي.
صحيح أن علماء الدين لا يواكبون العصر ولا ينتجون أجوبة ولا حلولا عملية ومتناسبة مع تطورات العصر، لكن العطب الأصلي في سلوك واختيارات الدولة نفسها، من جهة لأنها تبقي شرعيتها مرتهنة للحقل التقليدي، متناقضة في ذلك مع خطاب “المشروع الحداثي الديمقراطي” الذي سوّقته في مرحلة سياسية سابقة، ومن جهة أخرى لأنها تغلّب منطق الضبط والمراقبة الأمنيين في تدبير الحقل الديني، فتحوّل الاحتكار من معنى “التحييد” إلى إضعاف وتقييد.
لا أريد أن أذكّر بالدور الذي لعبه علماء الدين تاريخيا في الدولة المغربية، والذي جعلهم على الدوام قوة مضادة تكاد تحوز من القوة والنفوذ والسلطة ما يتجاوز الدولة نفسها. بل إن المرجعية التاريخية والدينية التي تؤطر إمارة المؤمنين تجعل العلماء مؤسسين لشرعية الدولة في المغرب، عبر مفاهيم “الحل والعقد” و”النصيحة” و”البيعة”… ونماذج الإشكالات التي نجمت عن اصطدام الحكام مع العلماء كثيرة ومعروفة.
لهذا سيكون من الخطأ محاولة المرور بالقوة (passage en force) في مواضيع مثل مراجعة المدونة وتغيير موقف المؤسسة الدينية الرسمية من فوائد البنوك… لأننا من حيث نعتقد أننا بصدد التحديث والتطوير، سنكون أمام تجريد الدولة من مصدر حيوي من مصادر شرعيتها، في وقت لم نقم فيه بالحد الأدنى الضروري من الجهد لتمكينها من شرعية جديدة، هي شرعية التمثيل الديمقراطي.
ما نعيشه حاليا ليس بوادر انتصار معسكر “حداثي” أو “تقدمي” من داخل بنية الدولة، على فريق آخر يمكن أن نصفه ب”المحافظ” أو “الرجعي”، بل نحن أمام خطوة ستضعف الدولة وتعزلها أكثر عن المجتمع، خاصة أن الجناح الديني الثاني، المتمثل في الحركات الإسلامية غير الرسمية، منغمس في رهانات وحسابات سياسية لا تسعفه في إنتاج ما يقدّم ويطوّر المجتمع، ويحفّز علماء الدولة على المواكبة بالتجديد والاجتهاد، وبعدما تم توجيه ضربة قاصمة لظهر مكون أساسي من هذه الحركة، حين ألقي لغم التطبيع مع اسرائيل داخل أسوار بيته السياسي.
خلاصة القول: إن الدولة في المغرب لا يمكنها أن تسعى إلى حيازة شرعية دينية تتغذى على منظومة فقهية واجتماعية محافظة ومقاومة للتغيير، وتحاول في الوقت نفسه ارتداء حلة الدولة المنخرطة في العصر والقادرة على التجديد والتطوير. لكل اختيار ضريبته وايجابياته وسلبياته. وفي انتظار تحقيقنا حلم الدولة العصرية المبنية على الديمقراطية والدستور والمؤسسات، لا يمكننا معاملة مكون أساسي في ضمير المجتمع، هو علماء الدين، بمنطق الإكراه والتهميش والوضع أمام الأمر الواقع.
قديما قال أبو حامد الغزالي إن “فساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حبّ المال والجاه، ومن استولى عليه حبّ الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والأكابر”. ومعه ردد المغاربة حكمة شعبية بليغة، تكاد تلخص ما نحن بصدده اليوم، وهي التي تقول: “طاحت الصمعة علقوا الفقيه”.