story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

“شوف الفريّخ”

ص ص

من حق الفئات المنتمية إلى سلك موظفي التربية الوطنية التي لا تقبل باتفاق 26 دجنبر أن تواصل رفع مطالبها وممارسة احتجاجها، لكننا وبقوة الأمر الواقع وصلنا مرحلة يمكن أن نقول إننا ضجرنا فيها من مسلسل الإضرابات التي تشل المدارس العمومية، وهو ضجر جماعي واضح للعيان.
لست متأكدا هل سينهي هذا الاتفاق حالة التوتر التي أحاطت بالمدرسة العمومية منذ بداية الموسم الدراسي، لكنني على يقين من أن “ربيع المعلمين” سيكون له ما بعده على جميع المستويات والأصعدة، وعلى رأسها إشكالية تقنين ممارسة الاضراب، التي بقيت عالقة منذ الاستقلال، ولم يفلح أي من الدساتير المتعاقبة منذ 1962، في الحصول على القانون التنظيمي الموعود لضبط كيفية ممارسة هذا الحق الدستوري المكفول بالمواثيق الدولية.
أخطر ما حصل وما زال يحصل على هامش معركة موظفي وزارة التربية الوطنية الحالية، هو سلوك الحكومة المرتبط بالاقتطاع من أجور المضربين. وآخر هذه الخطوات الخطيرة، هو ما وعدت به الحكومة أمس بمناسبة توقيع محضر اتفاق مع خمس نقابات، من “معالجة الاقتطاعات التي طالت أجور الموظفين خلال الفترة الأخيرة، على أساس إعطاء الأولوية للأساتذة الذين التحقوا بعملهم”.
هكذا وبكل بساطة تتعامل الحكومة مع حق دستوري راسخ بمنطق المساومة كي لا نقول الابتزاز.
هذه مسألة حيوية وحساسة لا تقبل التردد والأخذ والرد، لآنها تتعلق بالحق الدستوري في ممارسة الاضراب والحق “الطبيعي” في الحصول على أجر أو عدم تحصيله، لكن وفقا لسند قوي من الشرعية القانونية.
هذا السلوك كان قد برز في نهاية نونبر، عندما قدمت الحكومة عددا من الوعود لحمل المضربين على العمل، من بينها عدم اقتطاع أيام سابقة تم الاضراب خلالها، في حال عدم العودة إلى الإضراب مستقبلا. هذا تلاعب واستخفاف خطير بحقوق أساسية يفترض أنها تنضبط لقواعد قانونية واضحة لا تقبل الرجعية في الأثر ولا المزاجية في التطبيق.
لا يمكن للحكومة بعد اليوم أن تقنعنا بتوفرها على سند قانوني صريح يلزمها بالاقتطاع من الأجور على قاعدة الأجر مقابل العمل، بعدما أصبحنا أمام سابقة واضحة يتم فيها الاقتطاع وعدم الاقتطاع و”معالجة الاقتطاع” وفقا لمزاج هذا الوزير أو ذاك.
مسألة الاقتطاع مجرد جزء صغير من ورش القانون التنظيمي للإضراب الذي يمكن أن يفتح في أية لحظة. والخوف كل الخوف أن يكون ما جرى في الشهور الثلاثة الماضية مبررا يحمل الجزء المحافظ من عقل الدولة الباطن، على تمرير هذا القانون العالق منذ أكثر من ستين عاما، بطريقة تسمح بتقييد الحق في الاضراب والالتفاف على الضمانات الدستورية والدولية المتعلقة به. لكل فعل ردة فعل، والخشية قائمة اليوم من سلوك الدولة حين ستهدأ العاصفة.
صحيح أن مشروع القانون التنظيمي للإضراب موجود وتم ايداعه لدى البرلمان قبل سبع سنوات في سياق تخريجة، كي لا نقول حيلة، للقفز على المقتضى الدستوري الذي يفرض صدور القوانين التنظيمية الأساسية خلال الولاية التشريعية الأولى من عمر الدستور الحالي، إلا أن الخريطة السياسية والوضع المؤسساتي الحالي، بما أبانه من فراغ وغياب لتنظيمات وهيئات قانونية فاعلة، يمكن أن يفتح شهية البعض لتمرير مثل هذا القانون الحيوي بطريقة تفرغ الحق في الإضراب من مضمونه.
السلوك الحكومي في مسألة الاقتطاع من الأجر مؤشر قوي في هذا الاتجاه، إذ كنا سنتفهم موقفا واضحا يصر على الاقتطاع ويبرره قانونيا، لكن هذا الاستسهال في التعاطي مع حقوق حساسة مثل الاضراب والأجر، يحمل على أكثر من القلق.
قصتنا الطويلة مع حق الأجراء والموظفين في الاضراب، وحق المشغل في الاقتطاع في حال غياب غير مبرر للأجير، تنطوي على كثير من الغموض والالتباس. وبالعودة إلى الكتابات العلمية والاجتهادات القضائية بشأن هذا الموضوع، نلاحظ كيف يمكن للسلطة أن تكيفه وفق دوافعها وحساباتها.
فالنص القانوني الذي يسمح بالاقتطاع من أجور المضربين من موظفي الدولة صدر عام 1984، مباشرة بعد الأحداث الاجتماعية التي وقعت حينها، وكان موظفو التعليم أهم المشاركين فيها.
ورغم أن الراحل عبد الرحمان اليوسفي أصدر مرسومه التطبيقي عام 2000 بغرض محاربة ظاهرة الموظفين الأشباح، إلا أن حكومة ابن كيران استعملته (ولم تصدره كما يقول البعض)، لقمع احتجاجات المتدربين في سلك التعليم نفسه. ولا داعي للاحتجاج بالاجتهادات القضائية لأنها متناقضة ولا تنشئ قاعدة واضحة.
على هذا المجتمع أن يستيقظ من سباته ويفتح أعينه على التحولات الكبيرة والمتسارعة التي تجري من حوله. ففي حال تقرر اليوم الشروع في مناقشة مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب، فإن الأطراف الوحيدة الجاهزة للنقاش والدفاع عن مصالحها هو والرأسمال، تحت سقف بيت الزوجية الذي يجمعه بالسلطة، وهما قادران تماما حاليا على “ختان” حق الإضراب بالاستعانة بتقنية “شوف الفريّخ”…
فرجاء لا تحوّلوا محضر 26 دجنبر إلى “فريّخ”.