ممّر الأفعى..
لم يقطع طوفان الأقصى الطريق أمام مخطط تصفية القضية الفلسطينية ومحوها من وجدان العالم فقط، بل قطع الطريق أيضا أمام مشروع اقتصادي ضخم كان سيغذي اقتصاد إسرائيل ويحرس مصالح أمريكا عبر ربط الهند بالخليج العربي والخليج العربي بأوروبا مقابل فك ارتباط المنطقة مع الصين.
بدأت القصة رسميا في 9 سبتمبر 2023، حين وقعت دول من ثلاث قارات اتفاقا يعبّد الطريق أمام ممر اقتصادي تعبر منه السلع والهيدروجين الأخضر والكهرباء والأشخاص عبر البر والبحر محوره تل أبيب ويمتد في خرائط الشرق الأوسط والهند وأوروبا برعاية أمريكية.
وقعّت السعودية والاتحاد الأوروبي والهند والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأمريكا مذكرة تفاهم حول “مبادئ ممر اقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” (IMEC) تنص على إنشاء ممر برأسين واحد شرقي يربط الهند بالخليج العربي وآخر شمالي يربط الخليج العربي بأوروبا، تتحرّك داخله غنائم التجارة والسياسة.
نقرأ في إعلان المبادئ عن خط سكك سيقدم عند اكتماله، “شبكة عبور موثوقة وفعالة من حيث التكلفة عابرة للحدود وتسمح بالتنقل من السفن إلى السكك الحديدية ستدعم طرق النقل البحري والبري الحالية – مما يتيح عبور البضائع والخدمات بين دول الهند والإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل وأوروبا”.
فمثلما ترعى أمريكا ممرا آخر برأسين، أحدهما المغرب والثاني السودان، لتمسك عبره إسرائيل إفريقيا من شرقها وغربها، تبحث راعية الداء العربي اليوم أيضا عن حسم الهيمنة العالمية من أرض الصراع الوجودي.
كان يفترض أن تعقد “دول الممّر” ثاني اجتماع لها في 8 نونبر 2023، وهو الاجتماع الذي “هزّه الماء” وغمره الطوفان الذي قلب موازين العالم في 7 أكتوبر 2023.
كانت الولايات المتحدة تسعى من وراء مد هذا الطريق إلى عزل الصين وإيران وتسريع تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، واستمالة الهند إلى التحالف الأمريكي في المنطقة، قبل أن تبعثر عبقرية المقاومة في غزة أوراق الجميع.
الصحفي والمؤرخ الهندي، فيجاي براشاد، يرى أنه “بأقل تقدير، من المستبعد استئناف هذا الممر في المدى القصير”، كاشفا أن فكرة الممر بدأت “قبل إطلاق مبادرة الحزام والطريق بسنتين، حين خططت واشنطن لطريق تجاري ممول من القطاع الخاص يربط أوربا بالهند بعضوية واشنطن لتعزيز علاقاتها بنيودلهي”.
يذكر فيجاي خطابا ألقته هيلاري كلينتون سنة 2011 في الهند، تتحدث فيه طريق حرير جديد يعبر الهند وباكستان باتجاه آسيا الوسطى. في اللحظة التي ركزت واشنطن على أولويات أخرى في سياساتها الخارجية، اكتسحت الصين بمبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها سنة 2013، 148 دولة.
فيجاي يرى أن تحقيق الممر الاقتصادي بشكل يعزل الصين هدف غير حقيقي، باعتبار أن الصين تدير أهم ميناء بالممر وهو ميناء بيرايوس باليونان، كما أن الطريق البحري بين حيفا وبرايوس سيمر المياه المتنازع عليها بين تركيا واليونان المعروفة بنزاع بحر إيجا، زيادة على أن المشروع برمته يعتمد على تطبيع السعودية، وهو ما يبدو حاليا صعب المنال.
في الحقيقة، ليس تطبيع السعودية لوحدها من يعقد المهمة، بل الحفاظ على العلاقات مع الدول التي طبّعتها قديما وحديثا أيضا. الأردن التي تجمعها اتفاقية سلام مع إسرائيل منذ 1994، والمفترض أن ينقل الممر الاقتصادي منها وإليها البضائع والطاقة، أعلنت تراجعها عن اتفاقية الطاقة مقابل المياه.
في 2021 كانت الأردن قد وقعت مع إسرائيل والإمارات إعلان نوايا تلتزم بموجبه بتصدير 600 ميغاوات من الطاقة لإسرائيل مقابل حصولها على 200 مليون متر مكعب من المياه المحلاة من إسرائيل وهو ما سمّي بمشروع “الرخاء” !
تحلّل الأردن من رخاء كاذب، وحافظت السعودية على علاقات قوية مع إيران والصين في قلب الأزمة واستضافت قمتين حول غزة، وانتقدت مصر تحويل سيناء لمحتضن للحلول المتطرفة لإسرائيل، ورفض المغرب إدانة المقاومة، واحتضنت الصين مفاوضات حول غزة، وتلطّخ الممر بالدماء وغصّ بالجثث والغضب في مهده..
فرغم كل الحصار والتوحش الذي يمارسه الاحتلال في حق المقاومة وفلسطين، استطاعت خنق ممر الأفعى..