story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

فليذهب إلى مكان آخر 

ص ص

لم يعد خافياً على أحدٍ أن العلاقات المغربية الإسرائيلية قديمة قدم إسرائيل نفسها، وربما قبل ذلك، وهي كجبل الجليد، الظاهر منه أصغر ألف مرة مما هو خفي. إنها علاقة ثعلبية تظهر وتختفي، وهي في العمق علاقة غير مباشرة فرضت على المغرب لاعتبارات سياسية دولية مرتبطة بانخراط المغرب في إكراهات الأجندة الغربية بشكل عام، والأمريكية بشكل خاص منذ كان المغرب تحت الحماية الفرنسية، ولا يمكن للمغرب التخلص منها طالما ظل جزءً من تلك الأجندة، بل إن المغرب اقترف في السنوات الأخيرة خطوات سياسية واقتصادية وأمنية مؤسساتية زادت من شدة طوق هذه العلاقة حول عنقه، حتى صارت تهديداً وجوديا تقريبا.

لكن هذه العلاقة التي نتحدث عنها بقيت مجرد علاقة فوقية، رسمية، فاقدة للعمق الشعبي والدعم المجتمعي، لا يؤمن بها وبجدواها وشرعيتها إلا النزر القليل.

سطوة هذه العلاقة على وضعنا الداخلي والخارجي زادت بشكل مهول حين جعلناها محدداً في معركة استكمال وحدتنا الترابية، وقد تبين ذلك بوضوح من خلال الوضع الذي وجدنا فيه  أنفسنا بين واجب الدفاع  عن القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني وحق المدنيين الفلسطينيين في دولة مستقلة، وحقهم في الحماية الدولية وضرورة التصدي لعملية الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها؛ وبين إكراهات الحفاظ على موقف أمريكي هش وغير مضمون لا يتعدى اعترافاً بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية من طرف رئيس أمريكي سابق هو اليوم رهن التحقيق والمتابعة دون أن يستطيع الوفاء بما وعد به من خطوات، ليس أقلها فتح قنصليات أمريكية في العيون أو الداخلة وتوجيه الاستثمارات الأمريكية نحو المنطقة والضغط على الحلفاء لاقتفاء أثر واشنطن، بينما تمارس علينا الحكومة الأمريكية الحالية لعبة ابتزاز واضحة من خلال تقاربها الملغوم مع من يعتبرون أصل وسبب الداء في المنطقة منذ نصف قرن على الأقل، مثلما لا أظن أن جرأة البوليساريو على قصف مناطق في عمق الأقاليم الجنوبية للمملكة بعيدة عن موافقة واشنطن.

موقف المغرب الرسمي من القضية الفلسطينية وما يقع في الأراضي المحتلة حاليا، يضعه بين كماشة رفض شعبي لم يتغير منذ الاستقلال، وسكوت رسمي مبني على هاجس الحفاظ على هذا الاعتراف غير الموثوق به بوحدتنا الترابية.

يتكرر هذا الوضع في كل مرة تتجبر فيها إسرائيل وتطغى وتعيث فساداً في فلسطين، حيث تعود المطالبات الشعبية بضرورة قطع العلاقة بين الرباط وتل أبيب، وطرد السفير الإسرائيلي من الرباط وما إلى ذلك، وتستجيب الرباط لهذه المطالبات بقدر قد يزيد أو ينقص حسب نسبة ضغط الشارع. وبمجرد أن تهدأ الأمور تعود الدوائر الرسمية في البلدين لعملية إحياء وتعزيز هذه العلاقة التي لم يثبت لحد الآن أن المغرب الشعبي استفاد منها بأي شكل من الأشكال، مثلما لا يعتبر المغرب فيها طرفا رابحا بالقدر الذي تربح به تل أبيب… وهكذا ظل المساران مرتبطان بعضهما ببعض، بشكل سلبي وعقيم جدا ، فلا نحن دعمنا القضية الفلسطينية بما يكفي لاسترداد حقوق الفلسطينيين،  ولا نحن حسمنا  العلاقة مع إسرائيل  بما يكفي للذهاب قدما في الاضطلاع بدورنا المفترض في الأجندة الأمريكية، ولا نحن ضمنا الدعم الأمريكي والغربي والدولي عموما، بما يكفي لطي صفحة استرجاع أقاليمنا الجنوبية بشكل نهائي وحاسم.

لقد بقينا نراوح مكاننا بما يعرقل بشكل خطير، مسارنا التنموي أولا، بسبب استمرار النفاق الغربي البنيوي عبر التشكيك الأوروبي والأمريكي المقنع في سيادتنا على صحرائنا مثل توالي الدعوات في المحاكم الأوروبية ضدنا بهذا الصدد، منها ما نربحه ومنها ما نخسره في رحلة قانونية سيزيفية لا تنتهي، ويهدد، ثانيا وفي كل مرة، سلمنا الداخلي من خلال الانتفاضات الشعبية ضد الصلف الإسرائيلي، والتي تخلق حالة تراكمية من الاحتقان وتؤسس لميلاد أجيال من الغاضبين لا يعرف أحد ما  ستكون عليه تعبيراتهم السياسية على المدى القصير أو المتوسط.

لقد حان الوقت بالنسبة للمغرب في تصوري للحسم في هذا المأزق السياسي، وتجاوز التعاطي العاطفي مع هذا الوضع وذلك عبر ما سأسميه “فصل المسارات”  بعضها عن بعض، والتحرر من شراك أجندة دولية لا تعتبر مصالحنا الحيوية ذات أهمية كبيرة فيها، حيث يجب أن لا تبقى مواقفنا مرتهنة لأجندة غير أجندتنا، وأن نطور مواقفنا ونرسم مسار تحالفاتنا وفق ما تقتضيه مصالحنا الخاصة، من خلال بلورة خريطة للعلاقات مع كل من إسرائيل والفلسطينيين والأمريكيين والأوروبيين والروس والصينيين والخليجيين وغيرهم دون أن تكون العلاقات بين هذه الكيانات بعضها البعض محددا لنا،  لأن من العبث أن نفتح صفحة علاقات مع طرف ثانٍ يكون طرف ثالث هو المحدد فيها، ولا تكون لنا سلطة تدبيرها وفق مصالحنا الوطنية، وإلا سيصبح من الضروري  إلغاء العلاقات مع  إسرائيل والدول الداعمة لها بشكل تام ونهائي  أو إلغاء دورنا في القضية الفلسطينية إلى حين حل القضية الجوهرية بينهما. 

أليست الولايات المتحدة والعديد من دول أوروبا طرفا أيضا في الحرب على الفلسطينيين وفي الإبادة الجماعية لهم؟ فكلنا نعلم أن العلاقات مع إسرائيل ليست سوى جزءً من العلاقات مع واشنطن وبريطانيا وفرنسا وغيرهم، وكلها جزء من أجندة تتجاوزنا بكثير ،  وأن  مجرد سحب الاعتراف المغربي بإسرائيل سيكون  ضربا من الخيال والعبث إذا كان ذا طابع مؤقت ومرحلي، أما إذا كان نهائيا وقطعيا فإننا يجب أن نستعد لتداعياته على جميع الأصعدة سياسيا كانت أو أمنية أو اقتصادية، ولا أظننا على استعداد لذلك. 

فالتطبيع لم يعد مجرد مبادرة سياسية، بل صار “منظمة دولية” برأسمال رمزي وسياسي ومالي هائل، والتزامات اقتصادية وضمانات نقدية كبيرة جداً، تلعب فيها الأموال القادمة من لدن المستثمرين اليهود والخليجيين، وخصوصاً الإماراتيين دوراً خطيراً جداً، وقد يؤدي الانسحاب المفاجئ أو المتسرع من سيرورة التطبيع هذه إلى كارثة سياسية ومالية تشبه تلك التي تسبب فيها جورج سوروس لماليزيا والعديد من دول شرق آسيا في سنة 1997، حين سحب ودائعه بشكل كامل مفاجئ  من الشرايين الاقتصادية لتلك الدول ولم تنج من الانهيار سوى ماليزيا، بعد جهد جهيد وانكماش للاقتصاد بلغ أكثر من سبعة بالمائة سنة 1998 قبل أن يسترجع عافيته تدريجيا… وهذا موضوع المقال المقبل.

آه ، بقي أن نعرف علاقة العنوان الذي اخترناه لهذا المقال  بكل ما سبق: ” فليذهب إلى مكان آخر…” إنها ببساطة العبارة التي قالها رئيس ماليزيا السابق مهاتير محمد، حين قال له بعض الوسطاء  أن جورج سوروس يريد مقابلته بعد كل ما قام به.