story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

قميصُ جيل “Z”

ص ص

عشنا أسبوعا كاملا من الفرح المستحق. قرار مجلس الأمن الدولي، وخطاب 31 أكتوبر، وإعلان “عيد الوحدة” عيدا وطنيا جديدا. لحظة نادرة يشعر فيها بلد بكامله أن نصف قرن من الشك والإنهاك والمعاناة الدولية يطوى، وأن الرواية المغربية أصبحت مرجعا ولم تعد ملحقا.

لكن، وسط هذه الزهو المشروع، هناك صورة واحدة ظلّت تنغّص كل هذا الفرح، وتولّد في الحنجرة غصّة: شباب في مقتبل العمر يُساقون إلى المحاكم والسجون، فقط لأنهم ارتدوا قميصا أو كتبوا منشورا أو وقفوا حيث قرّروا أن يقولوا: نريد صحة وتعليما وكرامة.

هناك خطأ في التقدير وقع، ويمكن تسميته باسمه دون ارتعاش. ما جرى في الأيام الأولى لاحتجاجات “جيل Z”، خاصة في 23 و24 شتنبر، كان اختيارا متسرعا. منْع وقفات سلمية، وتفريق عنيف، واعتقالات واسعة، ثم اجتهاد في التكييف القانوني جعل شعارا أو ستوري أو قميصا يتحوّل إلى “تحريض” و”عصيان” و”إهانة موظف عمومي”.

اليوم، الأرقام الرسمية نفسها تقول إن أكثر من نصف المتابعين على خلفية تلك الأحداث لا تُنسب إليهم أفعال عنف أو تخريب أو إضرام نار أو هجوم منظم على القوات العمومية، بل أفعال مرتبطة بسياق خلقته الدولة حين انتصرت، في تلك الساعات الأولى، لخيار المنع بدل التنظيم، والصد بدل الاحتضان.

حين تُمنع الدعوة إلى التظاهر السلمي، ثم يُدفع الناس إلى الاحتكاك مع قوات الأمن، تكون النتيجة شبه محسومة: من يصادفه سوء حظه في المكان والزمان، يدخل في طاحونة المساطر، بينما يُهرّب أصل المشكلة خارج إطار الصورة.

المثير أنّ الدولة ذاتها قدّمت الدليل على أن المقاربة الأمنية الخالصة كانت خطأ، حين تحولت قواتها إلى مراقِب ومؤمِّن للاحتجاجات، بدل أن تكون عصا في وجهها. مرّت الوقفات بعدها بأقل احتكاك، لا لأن “جيل Z” انقرض فجأة، بل لأن السلطة قررت أن تتصرف كدولة واثقة، لا كجهاز عصبي منفعل.

لهذا، حين نطالب اليوم بمراجعة شاملة لوضع أكثر من 2500 شاب وشابة، ولسلسلة المتابعات التي طالت قاصرين ورواد رأي، فنحن لا نطعن في شرعية الدولة ولا في هيبة القضاء، ولا نقدّم شهادة براءة جماعية. نحن نكمل، من موقعنا، ما بدأه خطاب 31 أكتوبر وقرار “عيد الوحدة”: نذكّر بأن الدولة التي تملك شجاعة المصالحة مع خصوم حملوا السلاح، لا يليق بها أن تتردد في طي ملف شباب لم يحملوا غير هواتفهم وقمصانهم.

قميص “جيل Z” ليس قطعة قماش. هو مرآة لنوع الدولة التي نريد أن نكون. حين يتحوّل قميص كُتب عليه “الصحة والتعليم للجميع” إلى جسر نحو قفص الاتهام بتهمة “التحريض على ارتكاب جنحة أو جناية”، فنحن لا نطبّق القانون، بل نُسيء إليه.

الفصل 299-1 من القانون الجنائي صيغ، كما تذكّر المحامية سارة سوجار، لردع التحريض المباشر على الجريمة، لا لتجريم التعبير الرمزي عن مطالب هي نفسها التي يكررها الخطاب الرسمي: تعليم عمومي جيد، ومنظومة صحية لائقة، وكرامة اجتماعية.

لا يوجد في عبارة “الحرية لفلسطين” أو “الصحة والتعليم للجميع” أي ركن من أركان الدعوة إلى العنف أو الجريمة. إذا أصبح هذا تحريضا، فلا شيء سيبقى خارج التجريم. وقميص عليه كلمة “حرية” أو “كرامة” أو “فلسطين” أو “جيل Z”، لا يُستدعى إلى غرفة الجنايات؛ بل يُدعى إلى نقاش عمومي.

التقارير الحقوقية، من بينها تقرير الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، قدّمت صورة مقلقة عن حجم الاعتقالات، وعن تكييفات قانونية متضخمة، وعن قاصرين جرّهم الليل من بيوتهم، وعن أحكام ثقيلة في زمن يفترض أن نُقنع هذا البلد بأنه يدخل عهد “عيد الوحدة” لا “عيد الخوف”.

يمكن أن نختلف مع جزء من لغة هذه التقارير وتأويلاتها، لكن الأكيد أن الأرقام وحدها كافية لتقول إننا أمام حالة شاذة لا تليق بلحظة سياسية تؤسِّس لشرعية جديدة في ملف الوحدة الوطنية، قائمة على الانفتاح والاعتراف والنفس الطويل.

الخطاب هنا موجّه إلى العقل الهادئ في الدولة، إلى ذاك الجزء الذي كتب خطاب 31 أكتوبر ووقّع على “عيد الوحدة”، لا إلى من يعتقد أن الدولة لا تكون قوية إلا إذا تركت أثرا من الهلع في عيون أولادها.

ليس من مصلحتنا أن ندخل التاريخ بقرار حكيم في نيويورك يكرّس وحدتنا الترابية، وبمئات الأحكام في الرباط وأكادير وسلا ومراكش تُدوّن في سجلات العدالة ضد شباب جريمتهم أنهم حلموا بصوت عال.

نحن لا نطلب حصانة للفوضى ولا صكا على بياض للفيسبوك وديسكورد والشارع. من ثبت تورطه في عنف منظّم، أو في تكسير منهجي، أو في إضرام النار وتعريض الأرواح للخطر، فالقانون له، والدولة ملزمة بمعاقبته.

لكن، بالمقابل، علينا أن نميّز بقدر من الإنصاف بين من حمل حجرا ومن حمل هاشتاغا، وبين من حطّم واجهة بنك وبين من وقف أمام مستشفى حاملا شعار “نريد طبيبا لا وعودا”.

الخطر ليس في هذا الأخير؛ بل في أن نُشعره بألا فرق بينه وبين الأول.

القرار الشجاع اليوم ليس أن نرفع سقف العقوبات ولا أن نبرّر الأخطاء بفقه “هيبة الدولة”، بل أن نقول ببساطة: نعم، أخطأنا في الأيام الأولى، صحّحنا المقاربة ميدانيا حين تركنا الاحتجاجات تمرّ سلميا، وحان الوقت لنكمل التصحيح قضائيا وسياسيا.

عفوٌ شامل، ومراجعةٌ شجاعة للملفات التي لم يتجاوز فيها “الذنب” قميصا أو شعارا أو تواجدا في ساحة، رسالة واضحة بأن الدولة الواثقة لا تخاف من جيل يرتدي كلماته.