صحافةٌ سجنت ساركوزي
يوم 21 أكتوبر 2025، قضى الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي (70 سنة) أول ليلة له في زنزانته بسجن “لاسانتي” في باريس. في الجمهورية الخامسة (منذ 1958)، ساركوزي هو أول رئيس فرنسي يدخل السجن، والرئيس الوحيد في الاتحاد الأوروبي الذي تنفذ فيه هذه العقوبة.
مشهد تسليم الرئيس الفرنسي الأسبق نفسَه لسجنه تكثيفٌ هائلٌ لما تعنيه الديمقراطية.
مشهدية تغني عن أيّ كلام. مشى بتسليمٍ تامٍ للعدالة، التي لم تتردّد في الحكم بسجنه، بسبب مخالفته للقانون خلال سباقه الرئاسي نحو قصر الإليزي. لم تكن الشرطة في حاجة إلى سحب ساركوزي ( الرئيس بين 2007-2012) إلى الزنزانة.
القضاء الفرنسي نظر في جريمة تشكيل “عصابة” ضد الرئيس الأسبق للجمهورية، الذي تُوبع مع آخرين، بينهم المقربون منه بريس أورتوفو وكلود غيون، على خلفية قضية “التمويل الليبي” التي اتهم فيها بالحصول على أموال بطريقة غير شرعية من الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، بغرض تمويل حملته الرئاسية في 2007، مقابل رفع العقوبة عن صهر القذافي المحكوم في فرنسا بالمؤبد، في قضية تفجير طائرة ركاب في النيجر عام 1989، والتي قتل فيها 170 شخصاً، بينهم 54 فرنسياً.
بغض النظر عن تدقيقات وتشعّبات القضية القانونية، وحتى السياسية، قضت المحكمة في النهاية بسجن ساركوزي 5 سنوات، وفرضت عليه غرامة مالية قدرها 100 ألف يورو.
في الخلفية، حقيقة ديمقراطية أخرى: الصحافة.
أصل القضية انطلق مع تحقيق لصحيفة ميديا بارت، التي نشرت في 12 مارس و28 أبريل 2012 وثيقتان توحيان بوجود دفعة مالية من معمر القذافي قدرها 50 مليون يورو لتمويل حملة ساركوزي الرئاسية.
ومن مارس 2012، تاريخ نشر التحقيق الاستقصائي، إلى 21 أكتوبر 2025، يوم دخول ساركوزي السجن، درسٌ كبير في احترام الصحافة، والقانون، وربط المسؤولية بالمحاسبة.
سجن ساركوزي انتصارٌ للصحافة، وتقديرٌ لجهد صحافييْ ميديا بارت، فابريس أرفي وكارل لاسك. خلال محاكمة ساركوزي والمقربين منه، قال الصحفي أرفي: “عندما ترى رئيسا سابقا وثلاثة وزراء سابقين جالسين (..) أمام القضاء.. تعرف عندها أنك شاهد على حدث تاريخي”، مضيفاً أن تحقيق ميديا بارت “لم يذهب سدى”.
“لم يذهب سدى” تعبيرٌ عميقٌ يفهمه أكثر الصحافيون في الدول غير الديمقراطية، التي تعادي الصحافة فقط لأنها صحافة، فضلا عن أن تكتبَ ما يفضح السلطة. يفهمون تعبير “لم يذهب سدى” جيّداً مادام كشفُ الفساد لا ينتهي دوما بإحقاق العدالة. هذا إذا لم تجرِ عملية شيطنة للصحافة، بدل تجريم الفاسدين.
الصحافةُ ليست قضاءً، ولا سجّاناً. فقط تؤدّي وظيفتها وتترك الآخرين ليقوموا بما عليهم من واجبات. لهذا، لا يلتفت الصحافي كثيراً إلى التداعيات التي يمكن أن تترتّب على فضح الفساد. يُحرّكه واجب أن يعرف المجتمع، وأن يخبر الرأي العام بما توصّل إليه، ثم ينصرف إلى القضية التالية، تاركاً الارتدادات للمجتمع والمؤسسات، وباقي السلط.
الصحافي “نذير شؤم” لا يتمنى وقوع الكارثة. وهذا فرق جوهري ومنشأُ الخلط لدى السلطة، واستيعابُه كفيلٌ بتلافي جزءٍ كبير من “سوء الفهم”.
القضاءُ لم يصدّق ساركوزي حين قال: “لن تجدوا شيئا! أتعرفون لماذا؟ لأنه لا شيء هناك لتجدوه”. القضاء أخذ عِلماً ما نشرته ميديا بارت، وحقّق فيه، وفي النهاية وجد “شيئا” يستحق عليه “فخامة الرئيس” السجن 5 سنوات.
الفكرة شديدة البداهة: كل من يمارس سلطة تقع عليه مسؤولية، ويجب أن يكون موضِع مساءلة إن أثيرت حوله شبهات، وأن يخضع للعقوبات المقرّرة قانونياً إن ثبت خطأه.
في الدولة غير الديمقراطية هذه الفكرة الواضحة والبديهية تصير أكثر تعقيدا.
في الدول السلطوية، وبدل أن يُحاسَبَ المسؤول الفاسد، يُقَطعُ أصبُع الصحافة التي أشارت إلى فساده، وتُستعمل “صحافةٌ أخرى” للنيل من الصحافة التي تفضح أعطاب السلطة. يحصل هذا عندنا في المغرب، حيث لا مهمّة لـ”صحافةٍ” إلا أن تهاجم الصحافةَ.
كلّ شيء في البلدان غير الديمقراطية يكون مقلوباً رأساً على عقب: يصوّرون التحقيقات الصحافية ضد فساد المسؤولين مؤامرةً خارجية، والتحقيقَ معهم تطاولاً، ومحاكمتهم قِلَّةَ وطنية، وسجنهم جريمة.
لا يُسجن المسؤولون في البلدان المعطوبة ديمقراطياً أصلا إلا ضمن تصفية الحسابات، أو عند الحاجة إلى تنفيس، أو لتقديم “كبش فداء” عند التعرّض لضغوط، أو لذرّ رماد في العيون بشأن القضاء غير المستقل.
سيادة القانون عنوانٌ أساسيٌّ للدولة الديمقراطية. في قضية ساركوزي، نظر القضاء في شبهة تلقي أموال خارجية باعتباره جريمة، وباعتبار آثارها الممتدّة من المعاملة الفاسدة بين أطراف إلى إفسادِ جوهر الانتخاب، وحقّ المجتمع في الاختيار النزيه، وصوْن المؤسسات من التدخّل الخارجي، وحماية القرار السيادي مع التعامل المشبوه.
منصبُ ساركوزي لم يمنع محاكمته، بل يصير “ظرفَ تشديد”. في الدول غير الديمقراطية المنصب حصانة، ودرعٌ حامٍ من المساءلة، وكلّما كان رفيعا كان تحقيق العدالة مستعصياً أكثر.
قصارى القول
جوهر الدولة الديمقراطية هو ما يعنينا. وهذا تحديداً ما يطالب به صحافيون وحقوقيون وسياسيون في المغرب عندما يشيرون إلى وجود شبهة تضارب مصالح مثلا في ممارسات رئيس الحكومة أخنوش فيما خصّ صفقة تحلية المياه وغيرها. يريدون تحقيقاتٍ وترتيب جزاءات إذا ثبتت المخالفات. قال أخنوش من البرلمان، بلغة أخرى، تماما ما قاله ساركوزي: “لن تجدوا شيئا! أتعرفون لماذا؟ لأنه لا شيء هناك لتجدوه”. لكن هنا لم يُحقّق أحدٌ لنتأكد، ومرّت “مرور اللئام”.
ما يعنينا هو جوهر صيانة الإرادة الشعبية وسيادة القانون عندما يتحدث متحدثون عن تفشي استعمال المال السياسي لشراء الانتخابات، وحين يشيرون إلى المال العام المهدور بفعل السياسات والتشريعات والصفقات لصالح منتفعين حوّلوا القربَ من المسؤوليات العمومية منتجاً لـ”الثروة” الشخصية، التي تصنع وجهاً من وجوه “مغرب السرعتين”.
الصحافي لا يريد سجن أحد، ولا تعطيل الاستثمار، ولا قتل السياسة، ولا جعل المسؤوليات العمومية مسلخاً. يقوم بعمله في الإخبار عن المخالفين، ويتوقّع من باقي السلط أن تُؤدي واجباتها. هذا بالضبط ما حدث في قصة ميديا بارت وساركوزي، قبل أن تنتهي القصة بانتصار القانون. لا خاسرون ولا رابحون، إلا الديمقراطية.