story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

فلسطين لا تهمّني

ص ص

تازة وغزة

دعوة فاسدةٌ، أخلاقياً أساساً، تلك التي يطلقها من يستكثرون على الناس تعاطفهم مع فلسطين. يقبلون أن يتعاطف كثيرون في العالم مع المحتلّين، وأن يدعموهم ماليا ودبلوماسيا وسياسياً، وحتى عسكريا، ولا يستنكرونه، لكن ألسنتهم حِدادٌ ويهوّلون على من يتعاطف مع مظلومين.

من لا يتعاطف مع غزة، لن يتعاطف مع تازة. والعكس صحيح.

القصةُ تعالٍ عن حضيض الأنانيات نحو التحسّس من الظلم أينما حدث، وعلى كل من يقع عليهم.. وترفّعٌ عن حسابات السياسة التي ترسُبُ باستمرار في امتحان الأخلاق.

لا اغتراب في الكتابة عن فلسطين. الاغتراب الحقيقي ألّا نرى الإنسان في كل ما يجري أمام أعيننا، وأن ندسّ رؤوسنا في تراب الشوفينية بإزاء كل هذا التاريخ المكثّف الذي نعيشه، وألا نرى السياسة، والعالم، والخير والشر.

أن نكتب عن فلسطين معناه أننا ننحاز لما تبقى من إنسانية، وأننا نساهم في تشكيل جدار ضد التوحّش “قبل خراب مالطا”.

الكتابة عن فلسطين تمسّكٌ بجذوة البقاء وقوفاً في مواجهة المدّ العاتي الذي يدهس العالم.

وأن نكتب عن فلسطين بإلحاح، هو تلّمسٌ لفعل المقاومة في أي مكان، وتعلّم الانتصار للقضية، وجلوسٌ بين يدي الصمود في مواجهة الظلم والاستبداد والقهر.

نقرأ في كتاب غزة المفتوح لنتعلّم. لندرك أن مقاومة الظلم واحدةٌ، سواءً أكان استبداداً، أو احتلالا أو عنصريةً، أو بأي لون من ألوان الظلم.

ولا تتزاحم الاهتمامات وواجبات التضامن الإنساني إلا داخل النفوس الضيقة.

قضية الإنسان واحدةٌ، سواء أكان مسجونا في سجون نظام سياسي سلطوي بسبب آرائه، أو معتقلا في أقبية الاحتلال بسبب مناهضة الاستعمار. وحين يغْمِطُ بعض الناس حقّ آخرين، تكون المقاومة، في أي مكان وبأية وضعية، حقّاً، وواجبة.

والمقاومون ألوانٌ، من ناشط يواجه استبدادا، إلى مقاوم يحارب احتلالا، يجمعهم رفض الظلم، ومفرّقون على واجهات.

العودة الصغرى

بعد إعلان وقف إطلاق النار اندفع مئات الآلاف نحو شمال قطاع غزة المدمّر. 300 ألف في يوم واحدٍ: مظلومون لا سلاح في أيديهم إلا صمودهم لقهر المحتلين.

عنونت الزميلة الصحافية الفلسطينية صمود غزال مقالة في العربي الجديد بـ”طوفان العودة”. وكتبت: “أظهرت العودة أنها ليست مجرّد فعل عابر، بل لحظة تقلب كلّ الموازين وتعزف على أوتار الحق والهُويّة. هي كأن ترى أرضاً اعتقد الغزاة أنهم دفنوها تحت الركام، تنهض من جديد، وكأن التراب الذي تشبّع بالدماء يصيح بأبنائه ليعودوا. مشهد يشبه الطوفان، ليس من الماء، بل من الأجساد التي تحمل في ذاكرتها كلّ نبضة من الأرض، والحنين الذي أصبح أقداماً تسير بثباتٍ نحو الحياة”.

ولا نحتاج مع صمود غزال إلى تذكير جديد بشأن ما تعرّضت غزة طيلة 15 شهرا، وكل تلك المقتلة.

رجع العائدون من الموت إلى الشمال. وأهل الوسط والجنوب بقوا راسخين نكايةً في التهجير، وأفكار التهجير الوحشية.

عادوا حاملين شارة النصر، أنهم أحياء في زمن الإبادة. شارةَ انتصارهم على “خطة الجنرالات” وقادة الجنرالات، وبؤس الجنرالات، ودولة الجنرالات.

عادوا إلى الخراب، حتى لا يتركوا أي شبرٍ للوالِغين في الدم.

عادوا يفتّشون عن بيوتهم، وبقايا أشلاء مطمورة. ورأوا بأمّ العين أن تتار العصر هدموا كل شيء.

مشهدٌ الرجوع إلى شمال غزة جسّد “عودة صغرى”، في انتظار يوم العودة العظمى.. لا يترك الفلسطيني حلمَه، ويُورِّثُ حقّه جيلا بعد جيل. يسمونه (حقّ العودة)، والحقوق لا تسقط بالتقادم. سيبقى أهل الأرض أصحاب حقّ، وسرّاق الأرض محتلين.

ارتقى محمد الضيف ومروان عيسى وغازي أبو طماعة ورافع سلامة وقادة آخرون، وسينبعث من تحت دمار وأوجاع غزة آخرون. ليسوا موظّفين في شركة، ولا مقاولين، ولا قتلة مأجورين، ولا متطوعّين في قضية. هؤلاء أصحاب القضية الذين يصرّون على انتصارها، ويقدمون برهان استحقاقهم لأرضهم. فكيف تكون هزيمتهم؟

“الذبح بالقطن”

عاد الشعب بعد يومٍ من كلام دونالد ترامب، المستعدّ ليمنح إسرائيل آخر متر، لأنها تظهر له “في الخريطة صغيرة، ويجب أن ننظر كيف نجعلها أكبر”. ولا يرى في كل غزة إلا شواطئ “هي الأجمل في العالم”، وبعين “المطوّر العقاري” يفكّر أنه يمكن الآن أن تتحول إلى “أفضل من موناكو إذا أُعيد بناؤها بالطريقة الصحيحة”، فقطاع غزة “موقع رائع يطل على البحر والطقس به جميل، ويمكن القيام بأشياء رائعة فيه”.

ما لم ينجح الدمويون في تحقيقه طيلة 15 شهرا بالقتل والإبادة سيجرّب تجّار السياسة والدبلوماسية تحقيقه. 300 ألف إنسان، بكل أعطابهم وآلامهم، ردّوا على البلطجة التي أصبحت تحكم العالم، وتتغوّل بالتعريفات الجمركية والعقوبات، وتريد شراء كل شيء، وابتلاع دولٍ.

في السياسة قد ترتكب جرائم أفظع من الإبادة.

بالنسبة للشعبوي الذي يحكم البيت الأبيض، كل الأمر صفقة، ومناورات لوأد قضية الفلسطينيين. تحديثٌ لأفكار قديمة منذ الولاية الأولى، حين كان يفكّر في تمدّد قطاع غزة إلى داخل الأراضي المصرية. تقوم فكرته على تبادل أراضي وتفصيلات كثيرة أخرى، لكن على حساب مصر وليس إسرائيل. هو يرى أن إسرائيل “في الخريطة صغيرة، ويجب أن ننظر كيف نجعلها أكبر”.

في المرة الأولى كان يطرح كل هذه الجرائم ضمن “تسوية شاملة” للقضية الفلسطينية، واليوم يعود إلى الدفاتر القديمة لمحاولة تحقيق أهداف الحرب الإسرائيلية الحالية من بوابة السياسة، وبينها مخطط التهجير.

في الدبلوماسية والسياسة قَتَلَةٌ مهرةٌ. بارعون في صناعة الخراب، وسرقة الأوطان، ورهن المستقبل، دون إراقة قطرة دم.

هؤلاء سيمنحون الجمهور لحظة للاستمتاع بمشاهد المقاتل الإنساني الذي نفَضَ عنه غبار المعركة ليسلّم الرهائن بكل نبلٍ، فيما هم يخططون في الغرفة المكيّفة لإفراغ كل تلك الرمزيات من أي معنى.

سيمنحوننا جرعة أمل مسموم بهدنٍ خادعة، قبل أن يحاولوا سرقة المنصّة والجمهور والكاميرات في غفلة من الجميع، لتجريب بثّ المشهد الأخير في التدليس والتهجير.

ثمن الإبادة

مقتلة 50 ألف إنسان لا يمكن ألا تكون بدون ثمن. كلفة باهظة. مأساة.

كل ذلك الدمار الذي يغطي غزة دليلُ إدانة. ولا يجب أن يتحوّل إلى فرجة قبل أن ينال المجرمون الجزاء.

كل ذلك الدمار برهانُ الفلسطيني يعرِضه على العالم للإثبات لمن يحتاج إثباتاً أن الاحتلال مجرمٌ، ولا يستحق التعاطف والدعم.

غزة تفرحُ بمقدار ما عاشت الإبادة. وفي زمن الإبادة يكون توقّف المحتلين عن القتل مناسبةَ فرح.

توقّف الحرب في هدنةٍ ملتبسةٍ يمنح الناس وقتا مستقطعاً لرفع شارة النصر. والنجاة من هولوكوست النازيين الجدد يستحق الغناء.

نفرح لفرح كل الناجين من المحرقة، والعينُ على تلك الأقبية المظلمة حيث تُحاك الفظاعات في غفلة عن الشعب المكلوم.

أنصاف الأفراح تمشي في غزة، بعدما “بلغت القلوب الحناجر”، وإذ يحملُ كل نازح حقيبةً وأكواما من الألم. يتعالون عن جراحهم وآلامهم، وخصاصتهم، وعن جوعهم، بعدما دمّر المتوحّشون كل ما صادف طريقهم. يتعالون عن الجراحات، وتسكنهم.

قصارى القول

على هذا الأساس وحدَه، يكون لمقولة “القضية الفلسطينية على نفس درجة أهمية القضية الوطنية” (الصحراء) قيمة. لا تنفصلان في وعي الذي لم يغادر إنسانيته، وليس بحسابات السياسة فقط. لا تنفصلان على أساس بواعث أخلاقية عابرة للزمن والسياسة والمصالح.

لن ننتظر ليُحاكم أيُّ أحد انحيازنا الصريح للمظلومين. يجب أن يُساءَل كل أحدٍ عن إنسانيته، إذ لا مجال للفذلكة بإزاء الإبادة. لا مجال للوقوف في الوسط، ودسّ الرأس في التراب، والإشاحة بالنظر بعيداً. لا يجب أن نقبل بعد اليوم كل هذا الفقر من المعنى في النفوس، وكل هذا الانكسار أمام تحطيم “فكرة الإنسان”.

تازة قبل غزة. وغزة قبل تازة. وتازة مع غزة. كلها مناسبة بحسب سياقها. ولا تتشاكس إلا في عقل وإرادة من لا تهمه لا تازة ولا غزة. فقط المدلّسون، والمأجورون المتحدثون بالدفع المسبق، المتكلمون بألسنتهم بما يريده غيرهم، والفاقدون للحس الإنساني، من سيعتبرون أنهم غير معنيين بإبادة شعب. هؤلاء قد تجمعنا بهم تازّة، لكننا نتفوّق عليهم برحابة إنسانيتنا ليكون لنا نصيب من تعاطف نبيل مع غزة. أما من يعلنون صراحةً رفضهم محاكمةَ المجرمين في المحاكم الدولية، ويكتبون المقالات لذلك، ففي الدَرَكِ الأسفل من الإنسانية. لا كلام معهم، لأنّ رقْمَ شقاوتهم الأخلاقية فاضح. ننظر إليهم من أعلى. من أعلى بعيدٍ جداً.