story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

حارس الأصفاد

ص ص

في “بلاد الأنوار” فرنسا وزير العدل حارس الأختام، وفي المغرب ينافسُ وزير العدل نفسَه ليحوز لقب حارس الأصفاد.

تشعر كما لو أن وزير العدل عبد اللطيف وهبي يريد أن يضع في يد كل واحدٍ تحدث عنه بما لا يحبّ “مينوط” ليزهوَ في الإعلام بأن كرامته لا تقدّر بثمن، وبأنه قادرٌ على جرّ الصحافيين من مناخيرهم إلى المحاكمة.

ابتداءً، نسلمّ أنه من حقّ السيد الوزير أن يُقَيِّم كرامته كيف يشاء ويضع لها رقماً يليق بها، و”للمحكمة الموقّرة واسع النظر”، على أمل أن تأخذ بالحسبان أنه “تواضع” وطلب فقط ملياراً، وإلا فإن كرامته “فوق المليار”. هكذا قال.

ومن حقّه أيضاً أن يلجأ إلى القضاء لطلب الانتصاف مما يعتبره ضرراً لحق به. ولا شيء في القانون يمنعه من أن يذهب بالخصومة إلى مداها وهو يُحصِّل حكما بالسجن النافذ ضد صحافي.

ومن حقّه أن يجاهر مُفتخرا، إن كان في الأمر ما يستحق الفخر صراحة في زمن أغْبر، أنه قَهَر صحافيا بالقانون الجنائي في تكييفٍ نكوصيٍّ، رامياً “إثمه” على رئيس الحكومة والنيابة العامة.

ومن حقّه ألا يُسامح وأن يطلب فوق المليار ملياراً آخر، في قضية أخرى توعّد بها، مادام لا يؤدّي لصندوق المحكمة إلا 100 درهم!!.

ومن حقّه أن يُصعّد ويصعَد إلى جبل القانون في مواجهة صحافي، مهدّدا بوضع حدّ لـ”الضسارة وصحافة اللايكات والأدسنس”، حتى “لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ”.

وأيضا، من حقّ حارس الأصفاد أن يكرّس صورته وزيراً قادرا على فعل “ما لا يستطيعه غيره”، مراوغاً في الكلام بحذلقات المحامي الذي ينطّ من فصل إلى مادةٍ حتى لا يجيب كل مرة عن صلب الموضوع.

ولـ”فُتُوَّة الحكومة”، مادام قادراً و”لا مُعقّب لحُكمه”، أن يتحوّل من “مشتبهٍ به” مُطالَبٍ بتوضيحات إلى مشتكٍ ومُطالِبٍ بمليار، ومن “مُحاكَم” في بعض الإعلام إلى “مُحاكِم” في دهاليز المحاكم التي يعْرِفها وتعرِفُه، تاركا على من يجرّه إلى القضاء مهمةَ الإتيان بالدليل بدل أن يتصرّف كرجل دولة ليُعفيَ الجميع من حماقةِ الحكم بسجن صحافي، بأن يقدّم لـ”محكمة الرأي العام” ما ينهي أي ادعاءٍ عليه.

“الناجي” من التعديل الحكومي متمرّسٌ بلعبة تغيير المواقِع و”المواقِف”. ولن ينسى أحدٌ كيف عَيَّرَ، إبان سخونة انتخابية، رئيسه الآن في الحكومة بأن حزب التجمع الوطني للأحرار يشتري الانتخابات، قبل أن يفاوِض عزيز أخنوش على توزيع مناصب الحكومة المترتّبة عن نفس “البيعة وشرْية”. والله يجعل لغْفلة بين البايع والشاري.

وهبي متمرّس في المطالبة بالملايير، وهذا طبعه، ومثلما يُقال فإن الطبع يغلبُ التطبّع (الوزاري). وقد سبق أن طالب أخنوش بإرجاع 17 مليار درهم لخزينة الدولة، في إشارة إلى أرباح شركته العاملة في قطاع المحروقات، لكنه بعد الاستوزار ومجاورة أخنوش في الائتلاف الحكومي “فَقَد الذّاكرة وبلع لسانه” وتحوّل إلى مطالبةِ صحافيٍ بمليار. (آش عند الموت ما تدّي من الديور الخالية).

لسانُ السياسين، في عُرف وهبي، “ما فيه عظم”، ويجوز لهم في بلدنا أن يتقوّلوا ما يشاؤون، كأن يُتَّهَم أحدهم بالاتجار في المخدرات ولا يحدث شيءٌ، وآخر يرمي وزيرا ورئيس حزبٍ بتهمة شراء الانتخابات ثم يساوِمه بعد ذلك على ما اعتبره “مسروقا” خلال توزيع المناصب.. لكنهم لا يقبلون أن يسمعوا ما يُزعِج من الصحافة، ويَسْتَلُّون من القانون الجنائي ما يؤدّبون به. (تعلمو يا الحجاما فروس ليتاما).

وهبي كان يجب، لبقيّة نُبلٍ سياسيٍ، أن يبني على اتهاماته مثلا لأخنوش مقتضىً سياسيا وقانونياً، وهو الخبير في القانون الضالع في المواد والفصول، وبيّاع كلام السياسة الخالي من الكيّاسة.. لكنه لم يفعل، ورتّب اتهاماته في خانة الصراع السياسي المباح والجائز ولو تضمّن “الضرب والجرح مع نيّة إحداثه”، قبل أن يوقّع بيده طلب محاكمة صحافي بالقانون الجنائي بعدما كان دافَعَ كمحامي عن صحافيين آخرين ضد سياسي من حزبه. وفعلا، (العشق المزروب، كلو عيوب).

تتمنى لو يتعلّم أمثال وهبي الدرس جيدا:

الملك الراحل الحسن الثاني رفع دعوى قضائية ضد جريدة “لوموند” الفرنسية التي كتبت في حقه كلاما مسيئا واتهامات خطيرة، وربحها في محاكم باريس، مكتفيا بالمطالبة بتعويض رمزي قدره فرنك فرنسي.

والملك محمد السادس يوم نشرت صحيفة “الصحيفة” في حقّه خبراً كاذبا وخطيراً في قضية بترول تالسينت، أوقف متابعة الجريدة واكتفى بتحمّلها المسؤولية عن الوقوع في خطأ مهني، وبعث برسالة شديدة الوضوح أن الصحافة يمكن أن تخطئ، وأن التعامل مع خطئها لا يجب أن يخرج عن الحدّ، إلى المطالبة بسجن الصحافيين وتغريمهم مئات ملايين الدراهم.

فماذا لو أن وهبي غادر عقلية السياسي المسكون بالمناكفة و”طلوع الجبل” إلى رجل الدولة الذي يتبيّن المصلحة العامة في عدم الزّج بالصحافيين في السجون، وردّ ببيان حقيقة أو طلب حيّزا للردّ على ما يعتبرها أكاذيب، وقدّم معلومات للرأي العام جواباً على أسئلة الصحافي، بدل أن يسلك المسلك الأقسى انتصارا لشخصه دون اعتبار لمنصبه.

وهبي ليس مقدّسا، ولن يكون فوق “المساءلة الإعلامية”، ولا ينبغي أن يعتبر نفسه فوق المساءلة.

وأن يُقَطِّب السيد الوزير حاجبيه ويهزّ أكتافه، في حواره مع موقع “صوت المغرب”، ليقول إنه لا يهمّه أن يكون سبباً في سجن صحافي وتدمير مؤسسة إعلامية وهو يطالب بمليارٍ فمن عجب “سياسيي الوزن الخفيف”، والاستخفاف البيّن بمقدار ما يطوِّقه به منصبه.

سجن صحافي سيسوّد صفحات السيد “وزير غضبان”، ومعه سيسوّد صفحات السجل الحقوقي لبلدنا، وسيُدوّن في التقارير أن السلطات الحكومية المغربية تقف وراء سجن صحافي، وأنها تسبّبت في إفلاس مؤسسة إعلامية باستصدار حكم “إعدام” ضدها.

ومن يريد استعادة كرامته التي يراها “مهدورةً على قارعة السؤال الصحافي” لا يطلب بالضرورة مليارا وسجن الصحافي. كان بإمكانه أن يتعلّم “ممّن يفهم” ويطلب، من داخل قانون الصحافة والنشر، درهماً رمزياً وينتزع حكم إدانة ينتصر لكرامته بالقانون و”بما يرضي الحرية”، ويعلن أنّ في هذا القدرِ والحدّ من العقوبة في الخصومة كفايةً في مواجهة قضية نشر.. بهذا تكون كرامته “فوق المليار”.

من يريد استعادة كرامته كان يمكن أيضا أن يشتكي للمجلس الوطني للصحافة الذي سبق أن سحب بالطاقة المهنية من صحافي، وكان ذلك كافياً كعقابٍ إن ثبت خطأ المُشتكى به. بهذا كان سيساهم كرجل دولة في تكريس دور المؤسسات التي يجري تفريخها ثم إفراغها من مضمونها. كان سيثبت أن هذه المؤسسة تصلح لشيء.

أما أن يصرّح وهبي، بكل تفاخرٍ، أنه يحاكم صحافيا بالقانون الجنائي بصفته وزيرا للعدل، فهذا ممّا يطرح أكثر من سؤال عن مدى إدراكه لما يستجلبه على منصبه ( الزائل حتماً) من سوابقَ.

ثم ماذا لو أن وهبي فهِم الرسالة من قرار الملك تبييض سجون المغرب من الصحافيين حين أصدر العفو في نهاية يوليوز بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش، وبينهم مدانٌ بالسجن بناء على دعوى من وهبي نفسه. وهبي استطاب الذهاب رأسا إلى المحاكم والإلحاح في الإرسال إلى الحبس انتصارا لشخصه. ويبدو أنه لا يعرف طريقاً آخر لتدبير أزمات تحيط به، واستفسارات تلاحقه، وشبهات يطلب البعض بشأنها توضيحات.

قصارى القول

وهبي الآن ليس شخصَه فقط. وهبي وزير في الحكومة المغربية. وهبي وزير العدل في حكومة الدولة المغربية، مع ما في هذا الموقع من ثقلٍ يستوجب ركوزاً وثباتاً وتعقّلا أكثر في تدبير الخلافات الشخصية، وما يتجاوزها إلى ما يقع تحت مسؤوليته الحكومية. وهنا لا نقيّم الاستحقاق القانوني لخطوة التقاضي بصفته الحكومية مادام القانون يسمح له بذلك ويناصره أخنوش بالإمضاء وتتبنى النيابة العامة تكييفاته الشاردة لتلاحق الصحافيين بالقانون الجنائي، بل نسائل حدود المصلحة في افتعال محاكمات الصحافيين بالقانون الجنائي المفضي إلى السجون. تهدّن شوية ا السي وهبي.