هدنة الضرورة
اعتزمت اليوم تخصيص هذا الركن لموضوع وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، بينما ذهني يعاني التشويش الذي خلّفته العناوين والتعليقات التي تناثرت في اليومين الماضيين، بين من يصرّ على أن الأمر يتعلّق بنصر للمقاومة، ومن يراه استسلاما وانقيادا لإرادة اسرائيل.
كانت العقدة الأكبر التي ينبغي حلّها قبل أي تناول للموضوع، هو انعكاس هذه الهدنة التي وقّعت في الجبهة الشمالية لفلسطين، على الجبهة الجنوبية في غزة.
وكأني به قد علم بحاجتي إلى توضيح هذا الجانب قبل الاقتراب من الموضوع، وجدتني أضيء شاشة هاتفي فجر اليوم على تدوينة الصديق الإعلامي الفلسطيني المقيم في غزة، فتحي صبّاح، يعلّق فيها على “زعل” بعض الفلسطينيين بسبب توقيع هذه الهدنة بين حزب الله وإسرائيل، بل إن بعض هؤلاء الفلسطينيين، حسب صديقي دائما، شتموا الحزب وايران “لأنهم يقولون إنهم تخلوا عن قطاع غزة.
كيف حلّ الزميل والأستاذ فتحي صبّاح هذه المعضلة؟ لقد قال بكل بساطة إن حزب الله “قدّم اللي عليه وزيادة وقدم عدد من قادته السياسيين والعسكريين وسماحة أمينهم العام في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وتم تدمير الضاحية ومناطق اخرى من لبنان”.
لا عتاب إذن لدى صديقي الذي يعيش تحت القصف والنيران منذ عام وثلاثة أشهر، لكنه في المقابل لا يخفي نقده تجاه تدبير حركة حماس للمعركة.
“لمهم بقي قطاع غزة الآن يقاتل وحده بلا جدوى وبلا نتائج وبلا انتصار، وهذا يجب ألا يستمر على الاطلاق، بل كان لازم الحرب تنتهي منذ شهور طويلة”، يقول صبّاح، مضيفا أنه لو كان مكان حركة حماس لأفرج عن الأسرى الاسرائيليين الخمسة مزدوجي الجنسية، الإسرائيلية-الأمريكية، “بدون مقابل كبادرة حُسن نية، حتى تتحرك المفاوضات ويتحول الضغط على اسرائيل ونتنياهو للتوصل الى صفقة تبادل أسرى تُنهي معاناة ومأساة مليوني فلسطيني مشردين منذ 14 شهرا.
ها قد حُلّت عقدة العلاقة بين الهدنة المعلنة بين إسرائيل وحزب الله، والمعركة المأساوية الدائرة في غزة. لن أكون فلسطينيا أكثر من صديقي الفلسطيني، والحقيقة أنه ثبّت تقديري الشخصي بأن المكاسب الممكنة من المعركة التي انطلقت مع طوفان الأقصى، هي وراءنا، والنصر الاستراتيجي مؤكد ولا غبار عليه، وبالتالي كلّما عجّل الموجودون في الجبهة بوقف المعارك كان ذلك أفضل للأرواح والنفوس… على الأقل نفوسنا نحن الذين لم نعد نقوى على رفع أبصارنا في شاشات التلفزيون لهول ما نشاهده.
ماذا عن الجبهة الإسرائيلية اللبنانية؟ من الذي انتصر ومن الذي خسر؟
تعالوا نرتّب مجريات الحدث أولا:
دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله حيز التنفيذ فجر يوم الأربعاء 27 نونبر 2024، لينهي مواجهات عسكرية دامت نحو شهرين على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. وجاء هذا الاتفاق بوساطة دولية قادتها الولايات المتحدة وفرنسا، لتجنب مزيد من التصعيد في منطقة تعيش على حافة الانفجار.
ينص الاتفاق على وقف الأعمال العسكرية بين الطرفين، مع انسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية من جنوب لبنان خلال فترة 60 يوما، وتولي الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل الدولية مهمة مراقبة الحدود. كما يمنع الاتفاق حزب الله وجميع التنظيمات المسلحة من حمل السلاح أو القيام بأي أنشطة عسكرية في الجنوب، ويّخضع استيراد الأسلحة وتصنيعها لسيطرة الحكومة اللبنانية.
تجوّلت كثيرا بين مواقع الصحف والمراكز البحثية، اللبنانية والعربية والأمريكية والأوربية… محاولا الإمساك بخيط القراءة الموضوعية لما جرى. لم أجد ما يمكن أن يستقر في قرار قناعتي وأستسلم له ولو جزئيا على أساس أنه تقدير قريب من الدقة. المصادر العربية أكثر انحيازا من نظيرتها الغربية، اللسان عربي لكن الانحياز واضح لهذا الجانب أو ذاك.
قررت أخيرا أن أعيد قراءة تقرير لموقع “بي بي سي” البريطانية، باللغة الفرنسية، لأسباب تتعلق بي شخصيا وبتقديري لمهنية هذه المؤسسة، رغم السقطات التي وقعت فيها بعد طوفان الأقصى، لأننا لا يمكن أن نحكم على الكل من خلال الجزء أولا، ثم لأن التقرير فريد، لكونه اعتمد على تعليقات كتبها مراسلو الشبكة في فلسطين ولبنان، كل قدّم قراءته المستقلة لما وقع، وهو ما أشعرني بقدر غير يسير من التوازن والموضوعية في هذه المادة.
هناك تباين في تقديرات صحافيي “بي بي سي”، لكنني سأقوم بعملية تركيب واختزال، لمجمل ما ورد في هذا التقرير. وأبرز ما استوقفني، ولنتذكر أننا في موقع “بي بي سي” البريطانية باللغة الفرنسية، هو أن إسرائيل لم تحقق أهدافها بالكامل في الحرب مع حزب الله، على عكس بعض التصريحات الإسرائيلية الرسمية التي قد توحي بانتصار تكتيكي.
فاتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله يعكس توازن قوى غير مستقر، حيث لم ينجح أي طرف في تحقيق نصر حاسم، مع بروز مؤشرات واضحة على تعثر إسرائيل في بلوغ أهدافها الاستراتيجية في هذه الحرب.
ووفقا لتحليل “بي بي سي” دائما، فإن العمليات العسكرية الإسرائيلية في لبنان، التي امتدت لشهرين، لم تحقق الهدف الأساسي المتمثل في تحييد قدرات حزب الله بالكامل، رغم استهداف التحصينات وشبكات الأنفاق وتكثيف الضربات الجوية.
بل إن حزب الله استطاع الحفاظ على قدرته على إطلاق الصواريخ واستهداف العمق الإسرائيلي، بما في ذلك مدن كبيرة مثل تل أبيب وحيفا. هذا الواقع الذي استمرّ إلى الدقائق الأخيرة قبل الهدنة، أظهر محدودية التفوق العسكري الإسرائيلي، لا سيما في ظل المقاومة الشرسة التي أبدتها قوات حزب الله.
كما أن الجيش الإسرائيلي تكبد خسائر فادحة في الأرواح، مع تسجيل مقتل نحو ألف جندي خلال العام الماضي، وهو رقم غير مسبوق لدولة تعتمد على قوات احتياط محدودة الحجم.
أضف إلى ذلك، فشل إسرائيل في تحقيق الظروف التي تسمح بعودة سكان شمالها إلى منازلهم، بالاعتماد على القوة العسكرية، مما يعكس عجزها عن تأمين المنطقة على المدى القصير.
ورغم خسائره الميدانية الكبيرة، فإن حزب الله خرج من الحرب محتفظا بموقعه كقوة رئيسية في المعادلة اللبنانية. صحيح أنه اضطر إلى التراجع عن استراتيجيته في الربط بين الجبهتين الشمالية والجنوبية، لكن قدرته على مواصلة إطلاق الصواريخ والاحتفاظ بفعالية قواته الميدانية أظهرت صموده في مواجهة واحدة من أقوى الجيوش في العالم.
ويشير تقرير “بي بي سي” إلى أن الحزب وافق على وقف إطلاق النار ضمن إطار سياسي أوسع ينطلق من مصالح داعميه الإقليميين، خصوصا إيران، التي ترغب في تجنب إطالة أمد الحرب واستنزاف مواردها وحلفائها.
كما يرى لبنان، الذي تحمل العبء الأكبر من هذه الحرب، في وقف إطلاق النار فرصة لتخفيف الضغط على اقتصاده المنهك، واستعادة سيادة الدولة على الجنوب.
خلاصة تقرير “بي بي سي” أن هذا النزاع أظهر عجز إسرائيل عن فرض معادلة ردع جديدة في مواجهة حزب الله، كما حدث مع حماس في الجنوب. فاستمرار إطلاق الصواريخ من لبنان، والفشل في تحقيق أمن مستدام لسكان شمال إسرائيل، أجبرا الحكومة الإسرائيلية على قبول وقف إطلاق النار. وهذا الاتفاق يعكس، في جزء منه، إدراكا إسرائيليا محدودية الحلول العسكرية في مواجهة قوى غير نظامية ذات دعم إقليمي.
هي إذن خسارة للمقاومة ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي من حيث فك الارتباط بين الجبهتين، الشمالية والجنوبية، ستزيد من الضغوط على قادة حركة حماس في غزة لتقديم تنازلات ميدانية في غياب السند الذي كان حزب الله يوفّره لها. لكنها أيضا خسارة لإسرائيل التي لم تنجح في عنترياتها تجاه الجبهة اللبنانية، ولم تغيّر شيئا في قواعد الاشتباك مع حزب الله، بما أن صواريخه قادرة على ضرب أقصى الجنوب الإسرائيلي من وراء نهر الليطاني.
بعد تهانينا للمقاومة اللبنانية الباسلة التي قدّمت درسا في الصمود والوقوف إلى جانب قطاع غزة المحاصر واللعب بأوراق التوازنات الإقليمية والدولية، والتضامن مع محاصري القطاع الذين سيجدون أنفسهم اليوم وحيدين في مواجهة جيش أحمق؛ لابد أن ننتبه إلى ما قاله المفكر والسياسي اللبناني، غسان سلامة، لصحيفة “يومانيتي” الفرنسية في مقابلة مطولة، حين نبّه إلى أن الأهداف الإستراتيجية لإسرائيل لا توجد في جنوب لبنان ولا في غزة.. بل في الضفة الغربية.