ياسين بونو.. من مونريال إلى الهلال

قبل ثلاث سنوات، كان ملعب مونتيليفي بمدينة جيرونا الإسبانية، ينتظر وصول نادي إشبيلية ليلعب ضد النادي المحلي إحدى جولات دوري “لاليغا”، وكنت هناك مع المنتظرين، والسبب أن النادي الأندلسي سيأتي وهو معزز بنجميه المغربيين يوسف النصيري وياسين بونو ضمن تشكيلة كان يقودها المدرب الأرجنتيني ساو باولي.
توقفت حافلة “السيفيا” في مدخل الملعب، ومن المرآب إلى مستودع الملابس، لم يتوقف الحارس الدولي المغربي عن السلام على هذا ومعانقة الآخر، وتلبية طلب التقاط صورة مع أحد أفراد طاقم نادي جيرونا.. لقد كان ياسين يحل ضيفا على بيته وعائلته الكروية التي غادرها قبل مدة قصيرة، فوجد أن كل المدينة الكطلانية الصغيرة لازالت تحتفظ له بكل الحب والتقدير بعد أن أمضى فيها أياما زاهية ساهم فيها في صعود الفريق للقسم الأول للمرة الأولى في تاريخه، وأيضا أبصم معه على مباريات كبيرة ضد الأندية الإسبانية العملاقة.
كانت اللقطة المؤثرة جدا، هي عندما خرج ياسين بونو للقيام بالتسخينات اللازمة فوق أرضية الملعب رفقة مدرب حراس إشبيلية، فوقف كل من جالسا في المدرجات بالتصفيق الحار ترحيبا واعترافا بمكانة الولد المغربي الذي لازالوا يتحدثون عن احترافيته وأخلاقه وانضباطه وتفانيه في الدفاع عن قميص النادي.
ياسين بونو البيضاوي النشأة والكندي المولد، كانت جيرونا هي أكثر محطاته الكروية تأثيرا إيجابيا في مساره الذي نقله إلى العالمية، باعتبار معايشته للزخم الهائل الذي أنتج صعود الفريق لأول مرة للقسم الأول، واستطاع هناك أن ينتزع رسميته في وسط الموسم ليكسب ثقة متزايدة في نفسه جعلته يطمح للعب في مستوى أعلى ضمن ناد أكثر عراقة وحجما وسمعة.
لكن مسيرة إبن الأستاذ السابق في المدرسة الحسنية للأشغال العمومية جديرة باستكشاف تفاصيلها الملهمة منذ أن عاد رفقة أفراد أسرته وهو طفل لم يتجاوز السادسة من عمره، من مونريال الكندية ليستقروا في منطقة مرس السلطان بمدينة الدار البيضاء، حيث ظهر شغفه بكرة القدم منذ صغره، حين كان يمارسها مع أصدقاء حيّه، فسجله والده في مدرسة نادي الوداد الرياضي ، وهو في عمر 8 سنوات.
بعد ذلك بسنتين شارك في مسابقة “كأس الدار البيضاء” (Casa Cup). وبفضل ردود أفعاله السريعة، وقامته الطويلة مقارنة بزملائه في الفريق؛ وضعه مدرّب الفريق في مركز حراسة المرمى.
وشرع الطفل بونو بشق طريق مستقبله في عالم كرة القدم، فبدأ يشاهد بانتظام مقاطع فيديو لكبار حرّاس المرمى العالميين، مثل: الإيطالي جانلويجي بوفون، والهولندي إدوين فان دير سار.
أمضى بونو أكثر من عقد من الزمان في نادي الوداد الرياضي، وتدرّج في كل فئاته العمرية، حتى وصل إلى الفريق الأول، بالتزامن مع دراسته في المؤسسات التعليمية في مدينة الدار البيضاء. وعندما بلغ بونو سن 18 من عمره أبدى نادي “نيس الفرنسي” رغبته في ضمّه إلى صفوفه عام 2009، لكنّ المطالب المالية لنادي الوداد الرياضي حالت دون ذلك.
في موسم 2010/2009 التحق بونو بالفريق الأول لنادي الوداد الرياضي المغربي، وكان عمره 19 عامًا، بصفة حارس مرمى ثاني خلف نادر لمياغري الذي كان الحارس الأول للفريق البيضاوي حينئذ. وظل بونو حبيس مقاعد البدلاء طوال مباريات الموسم.
ومع انتهاء عقده، عرضت عليه إدارة الوداد التجديد، لكنهم فوجئوا برفضه الاستمرار، حيث قرر السفر إلى مدريد لخوض اختبار مع أتلتيكو مدريد. نجح في الاختبار ووقّع عقدًا للعب مع الفريق الثاني، الذي كان ينشط في الدرجة الثالثة، وبأجر يقل إلى النصف مما كان يتقاضاه في الوداد.
كان بإمكان ياسين بونو أن يفكر كما فعل كثيرون قبله: يجدد عقده مع الوداد، يصبح الحارس الأول، يرفع أجره ويكسب الشهرة داخل المغرب لعدة سنوات، ثم يبدأ منحناه في الانحدار حتى يجد نفسه في فرق صغيرة قبل الاعتزال دون أن يتذكره أحد، كما حدث للعديد من اللاعبين الموهوبين، لكن طموح الشاب، والبيئة التي نشأ فيها، إلى جانب السنوات القليلة التي قضاها في كندا، كلها عوامل أثرت في شخصيته ودفعته إلى اتخاذ قرارات صعبة دائمًا ما تثمر عن نتائج مبهرة في النهاية.
في الفريق الثاني لأتلتيكو مدريد، ظل حارسًا احتياطيًا طوال الموسم، وكان يستفيد من مشاركته في تدريبات الفريق الأول إلى جانب كورتوا وأوبلاك، وهما من أفضل الحراس الذين تخرجوا من مدارس كروية عريقة.
ومع نهاية الموسم، قرر بونو خوض تحدٍّ جديد في مدينة لا يعرف فيها أحدًا، فأُعير كحارس ثانٍ إلى نادي سرقسطة في الدرجة الثانية. لم ينته الموسم حتى أصبح الحارس الأول للفريق بعد صراع وجهد كبيرين لإقناع المدرب بمؤهلاته.
بعدها عاد بونو إلى أتلتيكو مدريد، الذي أعارَهُ مجددًا إلى نادي جيرونا، الساعي إلى تحقيق الصعود إلى الدرجة الأولى لأول مرة في تاريخه. وهناك، وجد نفسه مجددًا حارسًا احتياطيًا للحارس الباسكي المخضرم إيرايروز. لكن بعد بضعة أشهر فقط، تمكن بونو، بفضل جديته وانضباطه وعقليته الاحترافية وشخصيته القوية، من كسب الرسمية، وقاد الفريق للصعود، وتألق في مباريات الدرجة الأولى أمام أقوى نجوم الليغا.
هذا التألق دفع نادي جيرونا للتعاقد معه بشكل نهائي من أتلتيكو مدريد بعقد لأربع سنوات، لكنه لم يُكمله، إذ عاد النادي إلى الدرجة الثانية، فاختار الانتقال على سبيل الإعارة إلى نادي إشبيلية، مرة أخرى كحارس ثانٍ. وبعد إصابة الحارس الكرواتي توماس فاكليك.، حصل بونو على فرصة ذهبية، فاستغلها وأثبت أنه الأفضل، ليُقرر النادي الأندلسي التعاقد معه بشكل نهائي والتخلي عن الحارس الكرواتي.
اللافت في صفقة انتقاله من جيرونا إلى إشبيلية أن راتبه انخفض من 1.14 مليون يورو سنويًا إلى 900 ألف يورو فقط، مما يبرهن مرة أخرى أن قراراته لم تكن أبدًا مدفوعة بالمال أولًا، بل برغبته المستمرة في التطور وإثبات الذات على أعلى المستويات.
سنوات من المجد قضاها ياسين بونو في إشبيلية كتبت إسمه في تاريخ النادي إلى الأبد.. حيث حقق معه إنجازات بارزة جعلته واحدًا من أفضل حراس المرمى في أوروبا، حيث توج بلقب الدوري الأوروبي مرتين، الأولى عام 2020 بعد أداء حاسم ضد مانشستر يونايتد وإنتر ميلان، والثانية عام 2023 بتألق لافت في النهائي أمام روما وتصديه لركلتي جزاء. اختير أفضل لاعب في النهائي الأخير، وسُجّل اسمه كأول حارس مغربي يحقق هذا اللقب مرتين. كما برز بونو بأرقامه الفردية، فقد فاز بجائزة زامورا لأفضل حارس في الليغا موسم 2020–2021، وحقق عددًا كبيرًا من المباريات بشباك نظيفة، ما رسّخ مكانته كأحد أعمدة الفريق. وبفضل استقراره وأدائه في المسابقات الأوروبية، أصبح من أكثر الحراس مشاركة في تاريخ النادي قاريًا، محافظًا على مكانته الأساسية لعدة مواسم.
وبعد أربع مواسم في العاصمة الأندلسية، جاءته العروض من أعرق الأندية الأوربية للإنضمام لصفوفها.. لكن شروطها وقيمتها المالية لم تكن تجد اهتماما من إدارة إشبيلية الغارقة في أزمتها المالية بعد جائحة الكوفيد. ففضلت العرض القادم من دوري روشن وبالضبط من نادي الهلال السعودي، وهي الصفقة التي ُارت الكثير من الجدل بعد موافقة ياسين بونو الإنتقال إلى الخليج وهو في |أوج عطاءاته الكروية، وكثيرون فسروا ذلك بالقيمة المالية الكبيرة التي سيجنيها هناك والتي لا يمكن لأحد رفضها.
لكن بعد مرور بعض الوقت على استقراره في الرياض واندماجه في أجواء كروية جديدة ومختلفة، بدأت تظهر أولى الحقائق حول انتقال ياسين بونو إلى السعودية.. فالولد لازال على شخصيته الأولى التي لا تعير للمال الأهمية الأولى في المسار الرياضي، بقدر البحث عن محيط سليم ليمارس فيه عمله واجتهاده، وأن انتقاله إلى الهلال جاء في ظروف شخصية خاصة فرضت عليه تغيير الأجواء.
وأمام تألقه في كأس العالم للأندية المقامة بالولايات المتحدة الأمريكية، بدأت تتسرب أخبار عن رغبة أندية أوربية عريقة في الإستفادة من خبرة ياسين بونو، وتطمح إلى إعادته للقارة العجوز، فهي ترى كما نرى نحن أن ياسين بونو لازال في جعبته الكثير مما يقدمه للمغرب وللكرة العالمية.