story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

محمد جليد: هل ثقافتنا بخير؟

ص ص

ثمة مفارقة غريبة تستوقف كل من ينظر إلى حال الثقافة المغربية اليوم: فمن ناحية، هناك إنتاج غزير ومتميز في المجالات الفكرية والإبداعية والفنية المختلفة، لا يبرز تميزه وأهميته فحسب من خلال ما يحصده من جوائز وتقديرات- كما أبرزتُ في مقالة سابقة نشرتها منصة ‘صوت المغرب’ مشكورة قبل أيام-، وإنما من خلال مكانة هذه الإنتاجات داخل دوائر النقاش العربية، المشرقية على الخصوص، وكذا مساهمة المثقفين المغاربة، لا سيما في تأسيس مراكز ومعاهد، بل ومؤسسات جامعية، في بعض بلدان الخليج، وتأطير ندواتها ونقاشاتها وإنتاجاتها والإشراف على أنشطتها وتنظيمها، وكذا في الاستشارات والتوجيهات التي يقدمها الأساتذة الجامعيون المغاربة هناك، الخ. ومن ناحية ثانية، هناك هذا الإصرار على بث الفوضى- إن جاز هذا التعبير- في جميع مناحي الحياة الثقافية، خاصة في منظماتها وهياكلها الرسمية والمدنية معا.
لنضرب هنا بعض الأمثلة. وأولها وزارة الثقافة، هذه الجهة المسؤولة داخل الحكومة على تدبير ‘القطاع’ الثقافي. رغم كل التغييرات التي طرأت على أعلى الهرم فيها منذ تغيير الدستور إلى يوما الناس هذا، لم تنجح هذه الوزارة في أن تضع سياسة ثقافية- أو حتى برمجة سنوية- بمقدورها أن تشجع هذا الإنتاج الغزير والمتميز الذي ذكرته على التعريف بنفسه، وترويج أعماله وتطويرها، وضمان استمراريته مستقبلا. بل عجزت حتى على تطوير المبادرات الأولية التي ورثتها عن حكومة التناوب، بما يتناسب مع تحولات الثقافة المغربية العامة وتراكمات منجزها المادي واللامادي. ذلك أن أقصى ما أقدمت عليه الوزارة، بعد جهود الوزير محمد الأشعري المعتبرة، هو زيادة الدعم المالي وترحيل المعرض الدولي للنشر والكتاب، فيما يشبه التهريب، من حاضنته الأصلية الدار البيضاء إلى العاصمة الرباط، بتبريرات واهية لم تقنع أحدا حتى اليوم.
ويتجسد المثال الثاني في الوضع المزري الذي بات يعيشه اتحاد كتاب المغرب منذ أكثر من عشر سنوات. ظل الاتحاد، أو بالأحرى من يسهرون على مكتبه التنفيذي، ‘يجرجرون’ مؤتمره الثامن عشر، حتى بات هذا الوضع أشبه بدسيسة لـ’بهدلته’ داخليا وخارجيا. والأنكى من هذا أن جانبا من التزاماته الرمزية ووظائفه التمثيلية داخل بعض الهياكل الإقليمية، مثل الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، ربما يضر بقضية الوحدة الترابية، إذا استمرت أزمته الداخلية على هذا النحو. ويبدو أنها كذلك، بعد أن اختار بعض أعضائه، خلال الأيام الأخيرة، مواصلة فعل ‘الجرجرة’، لكن أمام المحاكم هذه المرة.
أما المثال الثالث، فهو غير ظاهر، لكن أثر سلبي للغاية. وهو يتجلى من خلال موقف ممثلي المجالس المنتخبة، في المدن والبلدات والأرياف على حد سواء، من الثقافة، ومن ممارستها. تكاد هذه الأخيرة لا تظهر في برامج هذه المجالس، ولا في ميزانياتها السنوية. وحتى إذا تضمنتها هذه البرامج، فهي لا تخرج عن مواسم تبوريدة أو مناسبات أو مهرجانات سطحية، ولا تتوخى أن تكون فعلا يوميا يمارسه المواطنون، كما يمارسون أعمالهم اليومية الأخرى. وإذا صادف أن انتخب مثقف ما على رأس مجلس ما- كما هو حال الكاتب والناقد المسرحي سعيد كريمي في مدينة الراشيدية- فهو يواجَه بجميع التبريرات الاقتصادية أو السياسية، لإفشال مبادراته في جعل الثقافة أولوية مهمة، شأنها شأن المجالات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى.
لماذا ما تزال هذه المفارقة قائمة بين تميز الإنتاج الثقافي المغربي وإهمال تنظيماته وهياكله والاهتمام بإنجازاته ونجاحاته؟ من ينظر إلى التاريخ، منذ منع الفلسفة في الجامعة وحظر الأندية السينمائية وأحداث منع الكتب الأولى وغير ذلك، سيجد أن الموقف الرسمي من الثقافة ما يزال موقفا سلبيا، يرفض أي اهتمام جدي بها، خاصة في جانبها الفكري والنقدي الساعي إلى ترسيخ الوعي والتفكير العقلاني، رغم ما تتبجح به بعض الخطابات الرسمية من أن الثقافة تمثل أيضا ‘رافعة’ للنمو الاقتصادي. وإلى اليوم، لم تستفد الثقافة من جهود توحيد الأنشطة في مؤسسات أو مكونات وطني كبرى، كما استفاد الاقتصاديون ورجال الأعمال من فكرة ‘الهولدينغات’ المالية، أو على غرار المؤسسات الرياضية أيضا. وما دام النظر الرسمي على هذا النحو من القصور عن الفهم، فإن الثقافة المغربية، في منجزها الناجح اليوم، مهددة بالتلاشي والاندثار هو الآخر، على غرار تنظيماته وهياكله.