هكذا أنصفت “الواقعية” شموخَ المقاومة على حساب أشباه المحللين!
لا يخفى على أي متتبعٍ لما يجري من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تصلُ حدَّ الإبادة الجماعية الممنهجة تجاه الشعب الفلسطيني في غزة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، تعالي أصوات بعض من أشباهِ المثقفين والمحللين الذين لا يخجلوا من ترديد أسطوانة العقلانية والحكمة والواقعية زوراً وبهتاناً، لا لشيء سوى لثني إرادة الأمة الثائرة عن مقاومتها للعدو الطاغي الذي لا يترددُ عن رمي كل الأعراف والقوانين الدولية عرضَ الحائط وإظهارِ كلِ أركانِ جرائمهِ أمامَ الملأ سواء الركن المعنوي المتمثلِ في نيتهِ إبادة الشعب الفلسطيني، والركن المادي الذي يصعبُ عدهُ وحصرهُ بفعلِ اندياح عدد الشهداء، وعليه ووفقَ الوضع المرير الراهن فإن مقاومة الإبادة الممنهجة والمستمرة تمثلُ جوهرَ العقلانية والحكمة، وتجسدُ عينَ الواقعية.
الواقعية ليست هي الاستسلام والهوان كما يرددُ أشباهُ المثقفين والمحللين؛ الواقعية في العلاقات الدولية وخاصة “الواقعية الجديدة الهجومية” التي تصفُ النظام الدولي بأنه فوضوي بفعلِ غياب سلطة عليا قادرة على فرض القانون وحماية الدول، هذه الفوضى تجعل كل دولة مسؤولة عن أمنها الخاص، كما أنَّ الواقعية الجديدة لا تستبعدُ نشوبَ الحروب في ظلِّ وجودِ منافسةٍ إقليمية، لذا يتجسدُ السعيُّ الدائم وراء امتلاكِ القوة الصلبة (القوة العسكرية)، وتعزيز الشركات والحلفاء من أجل حماية المصالح وتحقيق الأهداف الاستراتيجية.
بناء على ما تم ذكرهُ فإن ما تقومُ بهِ المقاومة في فلسطين هو عينُ الواقعية، في ظلِّ استمرار التمدد والتغول الإسرائيلي الذي لا يكترثُ لا للقانون الدولي ولا للمجتمع الدولي ولا للمنظمات الدولية التي لا تتوقف عن مطالبة الاحتلال الإسرائيلي بإيقاف الحرب، في المقابل فإن الحرب الإسرائيلية تجاه غزة لا يغذيها تهديدٌ وجودي حقيقي وعقلاني؛ فحماس لا تنافسُ الاحتلال الإسرائيلي على النفوذ الإقليمي، كما يستحيلُ قبول أنَّ حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة هي “حربٌ بالوكالة” سواء بين إسرائيل وايران أو بين الولايات المتحدة وإيران؛ لأن حماس ليست ذراعاً عسكرياً لإيران، وعلاقة حماس بإيران هي علاقة تحالفٍ عقلانية وواقعية.
فالواقعية تقول لنا بأنهُ عندما يطغى كيانٌ ما، تسعى الدول والجماعات إلى خلقِ توازنٍ من خلال تحالفات مضادة تعززُ قدراتها الدفاعية، وهو بالضبط ما تقومُ بهِ حماس من خلال تحالفاتها مع مختلفِ شركاءها؛ فرغم أن مرجعية حماس مستمدة من الخلفية الإسلامية السنية، إلا أن حلفاءها من خلفيات مختلفة، المشتركُ بينها وبين حلفاءها فهم عقلاني وواقعي لخطورة التغول الإسرائيلي في المنطقة. في المقابل ما الذي يخبرنا به عراب الواقعية الجديدة “جون ميرشايمر”، من خلال خراجاته الأخيرة تجاه الحرب الإسرائيلية المدعومة أمريكياً تجاه غزة؟
يرى ميرشايمر بأن العلاقة الأمريكية الإسرائيلية ليست علاقة قائمة على المصلحة المتبادلة وفقَ منطقٍ عقلاني وواقعي؛ فالدعم اللا مشروط للولايات المتحدة تجاه إسرائيل التي تُبيدُ الشعب الفلسطيني في غزة أمام العالم، مردهُ وجودُ اللوبي الإسرائيلي الذي يتمتع بقدرة كبيرة على قمع أي انتقادات توجه لإسرائيل داخل الولايات المتحدة، هذا الدعم غير مشروط لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، يتجاوزُ أي إدارة أمريكية ويجعلها غير قادرة على فرض ضغوط حقيقية على الاحتلال الإسرائيلي ويؤكدُ صاحبُ الكتاب العميق “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية” أن إسرائيل تستطيع اللجوء إلى اللوبي لتفعيل الضغط على الكونغرس إذا شعرت بوجود أي تهديد لسياساتها، هذا الضغط يمنع أي إدارة من اتخاذ إجراءات قاسية ضد إسرائيل.
يرى ميرشايمر أن اللوبي الإسرائيلي يتمتع بنفوذ قوي ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن أيضًا في الغرب عمومًا؛ هذا النفوذ يتيحُ بتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية لصالح إسرائيل، حتى لو تعارضت مع المصالح الأمريكية طويلة المدى، وهذا ما يفقدُ التحالفَ الأمريكي الإسرائيلي طابع العقلانية والواقعية؛ حيث أمست أقوى دولة في العالم تدعمُ الاحتلال الإسرائيلي بطريقة
يعتقدُ ميرشايمر إلى أنَّ البوصلة الأمريكية عليها أن تتجه إلى أقصى الشرق، فالواقعية تقولُ بأن التنافس بين الولايات المتحدة والصين لا مفر منه، حيث لا تتحمل أي قوة عظمى وجود نفوذ كبير لدولة أخرى، وخاصة في ظلِّ دعم الولايات المتحدة لتايوان مما قد يقود الولايات المتحدة إلى نزاع عسكري محتمل مع الصين، لذا فإن التواجد العسكري الأمريكي المتنامي في الشرق الأوسط بفعلِ الدعم الأمريكي للاحتلال الإسرائيلي لا يستمدُ مشروعيتهُ من الواقعية؛ حيث من مصلحة الولايات المتحدة غلق ملف الشرق الأوسط وإن مؤقت حتى تركزَ أكثر مع حربها المحتملة مع الصين، وهو ما لا تستطيع الولايات المتحدة القيام بهِ بفعل تغول اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة الذي يوجهُ السياسة الداخلية والخارجية لخدمة إسرائيل أولاً.
بحسب عراب الواقعية الجديدة ميرشايمر، فإن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، لكن الولايات المتحدة تواصل دعمها سياسياً وعسكرياً للاحتلال الاسرائيلي، رغم أنَّ هذا الدعم الذي يعفي إسرائيل من أي التزام قانوني، يمكن أن يؤدي إلى عزلة كل من الولايات المتحدة وإسرائيل دولياً، إذ أن سياسات إسرائيل العدوانية تثير استياءً واسعاً في دول العالم خارج الغرب؛ وخاصة أن الولايات المتحدة تتجه نحو تصعيد أزمتها مع الصين، وهو توجهٌ خاطئ من المنظور الواقعي.
كما أنَّ السعي نحو اقحام إيران في الحرب ليس قراراً حكيماً وفق منظور الواقعية الجديدة؛ حيث يحذر ميرشايمر من أن الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران سيؤدي إلى تصعيد لا يمكن التنبؤ بعواقبه، لأن إيران تملك ترسانة صواريخ قادرة على إلحاق ضرر كبير بإسرائيل، مما يجعل أي حرب بين الطرفين مكلفة للجميع.
ووفق ميرشايمر أيضاً فإن الحملات العسكرية التي يقودها الاحتلال الإسرائيلي ضد حزب الله، مثل اجتياح جنوب لبنان وقصف بيروت، لم تحقق الأهداف المرجوة بوقف هجمات الحزب، مما يظهر محدودية القوة العسكرية الإسرائيلية في التعامل هذا الواقع، يؤكد ميرشايمر أن اغتيالهُ لقيادات الحزب، مثل حسن نصر الله، والهجمات المتكررة على البنية التحتية في لبنان لم تُضعف حزب الله بل أدت إلى زيادة عدد الصواريخ الموجهة نحو إسرائيل، مما يظهر فشل سياسات الردع الإسرائيلية، ويظهرُ بأنَّ المقاربة الإسرائيلية بيعدة كل البعد عن الواقعية السياسية.
يحذر ميرشايمر من أن استمرار إسرائيل في التصعيد العسكري مع حزب الله دون الجلوس في طاولة الحوار والتفاوض السياسي من أجل ايجاد تفاهمات طويلة الأمد قد يؤدي إلى تآكل قدرات اسرائيل، كما أن القصف المتكرر للبنان يعمّق كراهية الشعوب العربية لإسرائيل ويزيد من تعاطفها مع الحزب الله الذي تآكلت شعبيتهُ في العقد الأخير بفعلِ سياسته في سوريا.
باختصار إذا كان من الضروري لأشباه المثقفين والمحللين من مطالبة أحد أطراف النزاع بالتحلي بالعقلانية والواقعية، فعليهم بأن يطالبوا الاحتلال الإسرائيلي وحليفهِ الأمريكي بالتحلي بالواقعية إذا كانوا يجرؤون، إلا أن العمى الأيديولوجي والجهل المركب بسياقات الحرب الحاصلة اليوم والتي ترهنُ مستقبلَ المنطقة برمتها، وانطفاء الروح الإنسانية في قلوبهم تحولُ دون قيام أمثالِ أشباهِ المحللين والمثقفين بتوجيهِ بوصلتهم في الاتجاه الصحيح، بدلَ لومِ الضحية وعتابِ شعبٍ يواجهُ إبادة جماعية تظهرُ للعالم بشاعة هذا النظام الدولي الذي جنَّ جنونه.