story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

هزّ البوطة هزّ البرميل

ص ص

بداية من صباح اليوم، الاثنين 20 ماي 2024، أصبح سعر قنينة الغاز من حجم 12 كيلوغراما هو 50 درهما بدل 40 درهما. تحوّل يمكن وصفه دون أدنى خوف من المبالغة ب”التاريخي”، لأن هذا التغيير يحدث للمرة الأولي منذ حوالي ثلاثين سنة، ثم لأنه يتعلّق بأكثر المواد حيوية وأهمية في الحياة اليومية للإنسان المغربي، ثم لحجم التغيير، والذي هو زيادة 25 في المئة دفعة واحدة، مع العلم المسبق أنها مجرد خطوة أولى في زيادات أخرى مقررة أصلا في سعر المنتوج نفسه، ما سيجعل سعره يتضاعف تقريبا خلال ثلاث سنوات.
الحدث كبير وضخم أيضا لأن الأمر لا يتعلّق بزيادة في سعر منتوج حيوي بالنسبة للقوت اليومي للأسر المغربية، بل لأنه لا يهمّ الأسر وحدها، بل يكاد لا يهمها تقريبا، بل يهم القسم الأكبر من المنظومة الاقتصادية المغربية، لأن ما تشتريه الأسر المغربية من قنينات غاز الطهي بالكاد يتجاوز عتبة الثلث من مجموع القنينات الرائجة في السوق المغربية، بينما يؤول 62 في المئة منها إلى قطاعات خدماتية وإنتاجية واسعة، منها الفلاحة والسياحة والخدمات الصناعية والتجارية المرتبطة بالخبز والمقاهي والمطاعم بجميع أصنافها…
نحن بكل بساطة أمام موجة تضخم شامل ومبرمج سيؤدي دون أدنى شك إلى تقلّص القدرة الشرائية لجميع المغاربة، وارتفاع كلفة المعيشة، واحتقانات اجتماعية بديهية في مثل هذه الحالات، بما أن كل المتضررين من هذا الوضع سيتحركون للمطالبة بزيادات في الأجور أو التسعيرات المحددة، مثل الخبز والنقل…
بعملية حسابية بسيطة، ودون أن نذهب بعيدا في التقديرات والتخمينات، مخبزة صغيرة في حي شعبي تستهلك ما يناهز عشر قنينات من غاز الطهي في اليوم، باتت ابتداء من هذا اليوم مطالبة بإنفاق مائة درهم إضافية، أي 3000 درهم شهريا، لا يعقل أن يخرجها المالك من جيبه، بل سيعمل على عكسها على أسعار البيع لتغطيتها، أي أنه سيبحث عنها في جيب المواطن، تماما مثلما سيتفعل باقي الفئات المتضررة من هذه الزيادة.
هذا عن التشخيص، ماذا عن الموقف؟
يطرح مثل هذا الموضوع تحديا كبيرا على المقبل على مناقشته، لأنه من المواضيع التي تتقاطع فيها الحسابات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتشكل إغراء كبيرا لممارسة الخطاب الشعبوي وتوجيه النقد اللاذع لأصحاب القرار… لكننا سنحاول أن نمسك بخط التوازن، تابعوني:
أول ما ينبغي تسجيله بصراحة ووضوح منذ البداية تجنبا لسقوط التحليل في فخ الشعبوية في النهاية، هو أن هذا الدعم الموجه لغاز البوتان غير معقول ولا منطقي وما كان ينبغي أن يستمر كل هذا الوقت، أي منذ التسعينيات، لأنه وبكل بساطة ينتهي في جيوب غير المستحقين للدعم، من المستثمرين الكبار في الفلاحة والسياحة والصناعة.
كان الوزير السابق في الحكامة، الراحل محمد الوفا، يردد إلى جانب رئيسه في الحكومة، عبد الاله بنكيران، أن الحكومة تستطيع توزيع قنينات غاز الطهي بالمجان على جميع الأسر المغربية بدون استثناء، وتوفّر من ذلك ملايير الدراهم من نفقات صندوق المقاصة.
لماذا؟ بكل اختصار لأن بعض الفلاحات السقوية والأنشطة السياحية والصناعية تستهلك كميات كبيرة من هذا الغاز المدعم، وهي أنشطة تجارية ذات هدف ربحي، ولا يعقل أن نستمر في دعمها بهذا الشكل.
لكن، بما أن هناك دائما لكن، هل كان المطلوب هو سحب هذا الدعم فقط؟
كلا، بل كان المطلوب تأهيل الاقتصاد المغربي وجعل الأنشطة التجارية والخدماتية فيه محررة وتنافسية، والقطع مع منطق الريع والاحتكار والتواطؤ، حتى تشتغل آلية السوق كما وضعتها الرأسمالية، وتحقق التوازن المطلوب بين الوفرة والأسعار.
كما كان يفترض أن ينطلق سحب الدعم هذا عن غاز الطهي بعد تحقيق الاستهداف المطلوب من الدعم الاجتماعي المباشر، والتأكد من وصوله إلى الأسر الأكثر هشاشة لتعويضها عن الكلفة الجديدة التي ستتحملها جراء موجة التضخم العامة التي ستخلقها الزيادة في سعر قنينات الغاز.
والحال أننا لم نؤهل الاقتصاد ولم نفعّل الدعم الاجتماعي المباشر.
جلّ القطاعات الإنتاجية الأساسية، مثل الفلاحة والسياحة والخدمات، هي أنشطة ريعية واحتكارية تفتقد للتنافسية الضرورية لضمان التوازن بين الجودة والسعر، وبالتالي فإن الفلاحين الذين يستعملون قنينات الغاز لتشغيل مضخات المياه سيعكسون هذه الزيادة بشكل تواطئي على المستهلك، أو سيعمدون إلى التخلي نهائيا عن هذا النشاط والبحث عن “همزة” جديدة، وبالتالي سنكون أمام خصاص وغلاء جديدين.
أما الدعم الاجتماعي المباشر فهي ورطة في مراحلها الجنينية، وقصص المؤشر المضحكة خير دليل على ذلك، ولا أعتقد أن الدراسات الميدانية التي تقوم بها مصالح وزارة الداخلية في مختلف مناطق المغرب ستُسعف في تدارك الاختلالات الكبيرة التي أسفر عنها التطبيق المرتبك لهذا الدعم، لأن أما أرملة كانت تستفيد من دعم صندوق التكافل العائلى ودعم “تيسير” والتغطية الصحية المجانية عبر “راميد”، باتت اليوم مطالبة بالبحث عن “محرم” تكمل به ملف الدعم وانتظار الحصول على 500 درهم شهريا، مع دفع مساهمة في صندوق الضمان الاجتماعي إذا كان لها أي نشاط اقتصادي أو “مؤشر” مرتفع لسبب أو لآخر.
أي أننا بكل اختصار أمام انسحاب للدولة من آخر أدوارها الاجتماعية، دون توفير السوق المقنّن والشفاف الذي يتولى الإنتاج المتوازن، ولا المنظومة الاجتماعية التي تسدّ الخلل وتعدّل الكفة المائلة.
الأخطر من كل هذا، هو أن هذا الانسحاب الذي تقوم به الدولة في انسجام مع توصيات المؤسسات المالية والنقدية الدولية، قد يدفع المواطن المغربي كلفته مضاعفة، من جيبه ومن ميزانية الدولة، لأن ما تعوّل الحكومة على توفيره من وراء هذه الزيادة في سعر قنينات الغاز (حوالي ملياري درهم هذه السنة) قد لا ينعكس فعليا على ميزانية المقاصة، بل قد نجد أنفسنا في نهاية السنة ندفع الكلفة نفسها من صندوق الدعم ما دام هذا الصندوق موجودا.
لماذا؟
بكل بساطة لأن منظومة الدعم في مجال الغاز، تقوم على صرف الفرق بين سعر البيع وكلفة الإنتاج، أي أن الدولة تدفع للموزْعين ما يحتسبونه ككلفة إضافية فوق السعر المحدد قانونيا، أي فوق 40 درهما في السابق و50 درهما حاليا.
أنقل حرفيا من الموقع الرسمي لوزارة الاقتصاد والمالية ما يلي:
يتدخل صندوق المقاصة من أجل دعم ثمن غاز البوطان عبر عدة مراحل من السلسلة وذلك بدءا من استيراد هذه المادة إلى الاستهلاك النهائي. وعلى هذا الأساس يتدخل الصندوق لدعم:
• الفارق المسجل في كلفة الاستيراد عبر تسوية ملفات استيراد الغاز بوطان،
• تكلفة تخزين هذه المادة سواء بحاويات الشركة المغربية للتخزين أو ب استقبال بالموانئ،
• تكاليف النقل من نقط التزويد إلى مراكز التعبئة،
• الفارق بين التكلفة النهائية للغاز والثمن المقنن عبر حساب تسوية الأسعار.
لقد كان هذا الدعم يصرف بهذا الشكل منذ التسعينيات، حين كان المتدخلون في عملية توفير قنينات الغاز للمغاربة، موزعين بين مستوردين ومخزنين ومعبّئين للقنينات وموزعين…
أي أن موزع قنينات الغاز كان يلجأ إلى شركات أخرى منفصلة عنه تقدّم له خدمات التعبئة ووضع السدادات والتخزين… أما اليوم فقد أصبح جلّ موزعي قنينات الغاز يقومون بجميع أجزاء سلسلة إنتاج قنينة الغاز، ما يؤدي إلى “الأخطار المتعلقة بالفوترة بين شركات منتمية لنفس المجموعة أو فوترة الشركات لنفسها مما يزيد من أعباء المقاصة بالنظر لمراكمة نفس الفاعلين لجميع الهاوامش والتعويضات”، كما يقول المجلس الأعلى للحسابات في تقرير صادر عام 2014.
نحن اليوم أمام شركات أخطبوطية، يقال لها “مندمجة”، كمثل الشركة التي يملكها رئيس الحكومة، والتي تجمع بين سلسلة الإنتاج من الميناء إلى التوزيع النهائي، وبالتالي ما الذي سيمنع هذه الشركات من الجمع بين العشرة دراهم التي أضيفت في سعر البيع، وبين الرفع من قيمة الفواتير التي تقدم لصندوق المقاصة، للحصول على الدعم الذي يغطي الفرق بين سعر البيع وكلفة الإنتاج المصرح بها؟
لقد عشنا وتابعنا ما حصل بعد حذف دعم صندوق المقاصة عن المحروقات، وكيف عمدت الشركات العاملة في هذا المجال على التواطؤ والتلاعب، بشهادة رسمية من مجلس المنافسة، وتكبيد المواطن زيادات فاحشة، كي تعوّض هذه الشركات ما كانت تحصل عليه دون وجه حق من صندوق المقاصة، لكن من جيوب المواطنين هذه المرة.
وما لم تتحقق عملية التأهيل والتخليق الحقيقي للسوق، وتستقر منظومة الدعم الاجتماعي على حال يضمن استفادة الفقراء والضعفاء، وما لم يتم حذف الدعم نهائيا عن غاز الطهي أو تسقيف الدعم الذي يمنحه للمنتجين، فإننا سنبقى في لعبة “هز البوطة هز البرميل” التي يتذكرها مواليد الثمانينيات وما قبلها، وسنجد أنفسنا خلال سنوات أمام مصيبة “لا ديدي لا حب الملوك”.