story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

نكبة نصف قرن

ص ص

هناك قضايا يطالها التجاهل والتهميش بشكل يستعصي عن الفهم والتفسير، لكونها تحوز كل عناصر المأساة، لكنها تُعامل كما لو لم تكن.
من بين هذه القضايا تلك التي يحاول بعض إخوتنا في المواطنة هذه الأيام إحياءها في النقاش والأجندة العموميين، والمتعلقة بقصة 45 ألفا من مواطنينا الذي أخرجوا من بيوتهم ذات شتاء بارد أواسط السبعينيات، وتعرضوا للتهجير بعد التجريد من الممتلكات، الخفيف منها والثقيل، وتحوّلوا إلى لاجئين في خيام نصبت لهم على الحدود المغربية الجزائرية.
يحلو لبعض إخوتنا في الجارة الشرقية، ممن يهوون دور البطل القومي المنافح عن العروبة والإسلام، أن يصوّرونا بشكل يجعلنا نشبه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، حين يتعلق الأمر بمعركتنا لاسترجاع الصحراء. ودون أن تكون لدي أدنى رغبة في الإساءة أو تأجيج العداوة والبغضاء أتساءل بكل البراءة الممكنة: في ماذا يختلف ما فعلته الدولة الجزائرية ذات دجنبر من سنة 1975، في حق مواطنين ذنبهم الوحيد أن أصولهم من المغرب، عن الجريمة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في حق الفلسطينيين، وحوّلتهم من خلالها إلى سكان مخيمات داخل فلسطين وخارجها؟
هل يقتضي فعلا واجب الأخوة وحسن الجوار والحرص على مستقبل أفضل لشعوب المنطقة، أن نتجاهل مأساة هؤلاء الأبرياء الذين أخرجوا من ديارهم وشردوا عن أهاليهم، بما أن غالبيتهم هم من مواليد الجزائر وممن أسسوا حياتهم بالكامل داخل التراب الجزائري وانتُزعوا من قلب حاضنتهم الاجتماعية والأسرية، وتركوا شقاء أعمارهم وممتلكاتهم وذكرياتهم وأحلامهم؟
ثم أين هي وعود الدولة المغربية التي تصدر بين الفينة والأخرى بدعم هؤلاء المواطنين والعمل على استرجاع حقوقهم المادية والمعنوية وجبر ضررهم؟ وحتى إذا كانت للدولة إكراهاتها وحساباتها التي تحملها على عدم مسايرة الاستفزاز والانسياق للرعونة حين يتم قتل مواطنين بالرصاص الحي في مياه المتوسط أو في النقط الحدودية البرية، فأين هو المجتمع المغربي بقواه السياسية والمدنية والاقتصادية من مأساة عشرات الآلاف من مواطنينا الذين هجّروا وشردوا لأسباب انتقامية مرضية، جعلتهم يدفعون ثمن نجاح المغرب في تنظيم المسيرة الخضراء ووضع قدم أولى في أراضيه الجنوبية؟
المراهنة على الزمن لن تسعف في مثل هذه الحالات، لأن آثار الاقتلاع والنفي والتشريد تصمد أمام النسيان والتجاهل، بل تتوارث أبا عن جد. وإذا كان الخلاف في ميدان السياسة والحدود والتحالفات الإقليمية والدولية وارد، فإن جريمة من حجم طرد الآلاف من المدنيين الآمنين من ديارهم لا يجد ما يسعف في دفنه مهما تراكمت السنين وتعاقبت الأحداث.
رغم دمويتها ووحشيتها والمسؤولية التاريخية والقانونية والأخلاقية للجزائر عنها وعن انعكاساتها على حاضر ومستقبل المنطقة، فإن حرب الصحراء نفسها التي تحمل الدولة الجزائرية وزر إشعالها وتغذية نيرانها بحطب الدعاية والتحريض والتسليح، “تهون” أمام فظاعة مشهد إخراج 45 ألف مواطن مدني بريء من بيوتهم الدافئة نحو مخيمات باردة في الحدود مع المغرب، والعالم الإسلامي وقتها يعيش أيان عيد الأضحى.
هذا جرح مفتوح يشارف على إكمال نصف قرن من النزيف، حيث يستعد أعضاء تحالف دولي آخذ في التشكل من بين ضحايا هذا التهجير القسري لإعلان السنة المقبلة (2025) عاما خاصا بتخليد ذكرى المأساة بمناسبة مرور نصف قرن على وقوعها.
الجرح مفتوح ونزيفه مستمر، ليس لأنه يهم عشرات الآلاف من الأبرياء، بل لأنه أساء لوحدة فعلية قامت في المنطقة بشكل دائم رغم كل الصراعات والتقلبات السياسية والعسكرية التي عاشتها المنطقة، منذ عهد الدول الأمازيغية القديمة والهجمات الرومانية والفينيقية والأوربية التي عرفتها شعوب المنطقة.
وحدة تجد شواهدها في التاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة والدماء التي اختلطت بالمصاهرات والهجرات المتبادلة. وجاءت جريمة نظام بومدين حينها لتوقّع على أول “هجرة” قسرية من هذا النوع في تاريخ المنطقة، بعدما ظلت الهجرات متبادلة لأسباب إنسانية وسياسية (خارجية) حملت المغاربة والجزائريين على اللجوء إلى بعضهم البعض كما يلجأ الجار إلى بيت جاره حين يباغته طارئ أو تحل به نكبة.
الريف المغربي الذي خرجت الجزائر مؤخرا ملوحة بورقة “انفصاله” عن المغرب، هو أحد العناوين الكبرى لوحدة المنطقة وامتزاجها البشري. وحدة عابرة لحدود السياسية الملغومة بالقنابل والأشواك، لأن التاريخ يحتفظ بتفاصيل هجرات كثيفة انطلقت من الريف شمال المغرب نحو الغرب الجزائري، والتي يعتبرها المختصون واحدة من أهم الحركات السكانية التي عرفها حوض المتوسط في العصر الحديث، وتحديدا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
هجرة لأسباب اقتصادية واجتماعية سبقتها هجرة أخرى كثيفة من الجزائر نحو المغرب، في بدايات الاحتلال الفرنسي للجزائر، وهي الهجرة التي جمعت بين الطابع السياسي باعتبارها نوعا من اللجوء والفرار من بطش العسكريين والمستوطنين الفرنسيين، والطابع الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما خلّف لنا إلى اليوم مظاهر تلاقح ثري نصادفه بشكل شبه يومي لمواطنين مغاربة ينحدرون من أصول جزائرية، دون أن يشكل ذلك سببا لأي نزاع آو تمييز.
بل إن من بين أولى القرارات التي اتخذها المغرب بعد طرد الآلاف من مواطنيه من الجزائر، هو الاستنفار والتحذير من أي مساس بالمواطنين الجزائريين أو المنحدرين من أصول جزائرية.
هذا السلوك الذي سيسجله التاريخ لصالح المغرب والمغاربة، لا يعفي من العمل على استرداد حقوق مواطنينا المهجّرين من الجزائر، سواء منها الحقوق المادية المتمثلة في ممتلكاتهم وأمتعتهم التي صودرت منهم بخلفية انتقامية بغيضة، أو الحقوق المعنوية التي تكفلها كل المرجعيات الدينية والقانونية، المحلية والدولية، لأصحاب حق ينبغي أن يِعترف لهم به، بالحوار والتفاوض أو بالضغط والمحاكمات.
خمسون عاما من القهر والنسيان تكفي.