story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

نقاشات سريالية

ص ص

هناك جرعة من السريالية تجتاح نقاشاتنا هذه الأيام، كما لو أن بنا مسّ عصف بأرواحنا أو استهلكنا ما يفقد العقل توازنه. وقدر كبير من العبثية يحاصرنا حتى لا نكاد نفرّق بين الجدّ والهزل.
وأنا أستعمل الكلمتين بمعناهما السائد لتأطير ملاحظات سريعة حول ما يجري في فضائنا العام، أخشى أن أظلم حركتين فكريتين لهما أسسهما النظرية: السريالية من جهة كتيار فني وأدبي تأسيس قبل قرن كامل من الآن بهدف تحرير العقل من القيود الاجتماعية والمنطقية، والتعبير عن الأفكار والخيالات بحرية تامة؛ والعبثية كمدرسة فلسفية ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية في محاولة لإظهار التناقضات بين محاولة الإنسان إيجاد معنى في عالم بلا معنى.
• المشهد الأول:
وزير الخارجية والتعاون ناصر بوريطة، يخرج بعد أربعة أيام كاملة من ارتكاب إسرائيل لمجزرة بشعة أدت إلى قتل نحو مئة شخص أثناء أدائهم صلاة الفجر، ليقول ماذا؟ ليعيد علينا فقرات من خطاب العرش الذي ألقاه الملك قبل أسبوعين.
قرأت التصريحات وأعدت القراءة عدة مرات، فلم أجد غير عبارة “ليته سكت”. هل يعتقد السيد بوريطة أننا لا نحسن القراءة والإنصات لخطاب الملك الذي يتم بثه مباشرة عبر الإذاعات والتلفزيونيات وينشر نصه الكامل على نطاق واسع؟ أم هناك مدرسة جديدة في الدبلوماسية تقول إن الخطب والتصريحات تعفي من التفاعل مع الأحداث وتطوّرات؟ ألم يتم اغتيال إسماعيل هنية بعد خطاب العرش؟ ألم تحدث المجزرة منذ خمسة أيام فقط (خرجة الوزير كانت يوم أمس الأربعاء 14 غشت 2024)؟
يخبرنا السيد الوزير أن المغرب يعتبر القضية الفلسطينية في مرتبة القضية الوطنية، لكنه لم يوضّح لنا لماذا اختار عدم الحديث عن مجازر وحشية مرتبطة بالقضية الفلسطينية، إلى أن جاد لقاء ثنائي مع وزير إفريقي ارتباطا بقضية الصحراء؟ هل يدرك أن القراءة السيميائية للأحداث تقول عكس ما يتفوّه به الوزير، أي تفعيل شعار “تازة قبل غزة” بأكثر معانيه انحرافا؟
• المشهد الثاني:
مسؤولون رياضيون راكموا الفشل في مجالاتهم يتصدّرون المشهد و”يخرجون” أعينهم وجباههم ويقصفوننا ب”المنقّي خيارو”. قديما قالت الحكمة “الزين يحشم على زينو”، وحاليا تقول لنا تصريحات رؤساء بعض الجامعات الرياضية بأنه “ما عندهم علاش يحشموا”.
نعم ليست هناك سياسات عمومية يمكنها أن تفضي إلى إنتاج الأبطال وحصد الميداليات، لأننا نفتقر أصلا إلى رؤية وطنية خاصة ببناء الإنسان المغربي، لكن أبسط ما تقتضيه نتائج من قبيل ما حصلنا عليه من أصفار في أولمبياد باريس 2024، هو الاستقالة والرحيل، أو في الأدنى التزام الصمت واحترام مشاعر مواطنين حلموا بالتتويج.
هناك منطق معكوس يراد له أن يسود ويحكم: المسؤولون عن تلك الخيبات هم من “يصعد الجبل” ويردد “طارت معزة” وللي “دوا يرعف” كما هو الحال مع رئيس جامعة ألعاب القوي الذي “تلصّق” في إنجاز شخصي لسفيان البقالي، وأنزل عقوبات بالصحف التي انتقدت حصيلته في الألعاب الأولمبية عبر حجب إعلانات شركة اتصالات المغرب عنها… إيوا “تعضّ ولا نعضّ”.
• المشهد الثالث:
فرحنا جميعا بالعفو الملكي عن عدد من الصحافيين والمدوّنين والنشطاء. ترفّعنا في هذه الصحيفة كما في منابر عديدة أخرى عن السلوك الانتهازي، وتجنّبنا الحديث عن الخطوة كانتصار لطرف ضد آخر، وركّزنا على الجانب الإيجابي في الخطوة مغلّبين التحفيز على المواصلة وفي ذات الاتجاه…
لكن هذا العفو لا يحتمل أي معني غير تصحيح الأخطاء. وإلا ما كان الملك ليقدم على خطوة قوية وشاملة من هذا النوع، لأن الأمر همّ العشرات من معتقلي الرأي، ولو كان الأمر يتعلق بمبادرة إنسانية لاكتفى بحالة أو حالتين.
الخطأ واضح ومعروف: مواطنون مغاربة تعرضوا للظلم ومسّت حقوقهم الدستورية والإنسانية عبر اعتقالات ومحاكمات افتقدت إلى ضمانات العدالة. ومن الطبيعي والبديهي أن من ظٌلم يقول شكرا لمن صحّح الخطأ، وقد حصل هذا، لكن صحيح أيضا أن يتحدّث عن معاناته ومكابدته مع المحنة والظلم.
لكن، وكما لو أن شيئا من كل هذا لم يحصل، عادت آلة التشهير لتشتغل بكل قوة في حق ضحاياها السابقين أنفسهم. هل يريد البعض أن يقول للملك إنك أخطأت؟ الأفضل لنا جميعا لو نحتفظ بذكرى لحظة فرح جماعي ونتطلّع للمستقبل إن لم يكن بالتصحيح والمراجعة، فبعدم تكرار الأخطاء نفسها على الأقل.
• المشهد الرابع:
قام رئيس الجمعية المغربية لحقوق الانسان، عزيز غالي، بالتعليق على مشاركة جزء من موظفي التعليم في إنجاز الإحصاء العام للإسكان والسكنى المرتقب شهر شتنبر المقبل. وأثار غالي جدلا قويا، خاصة مع جزء من موظفي التعليم، حول وجاهة هذه المشاركة ما إن كانت تتم على حساب دخول مدرسي ناجح.
هذا مواطن قام بتصريحات تعبّر عن رأي، يمكن أن يتفق معه الآخرون كما يمكنهم أن يختلفوا معه. لكن النقاش لم يعد هو علاقة الإحصاء بموظفي التعليم وأهمية هذا الاستحقاق والوضع المادي لهؤلاء الموظفين… بل أصبح النقاش حول نوايا وأهداف عزيز غالي وانتماءاته السياسية، واتهامه بالتغطية على نقاش هزالة نتائج الأولمبياد واستهداف فئة من الموظفين…
عزيز غالي إنسان يصيب ويخطئ، لكن أن تكون له هذه القدرة على فتح نقاش واسع وطرح موضوع تتردد فيه كلمات مفتاحية مثل التعليم والإحصاء ومحاربة البطالة… فهو إنجاز يفوق ما حققته كثير من الجامعات الرياضية والقطاعات الحكومية.
يفترض فينا التقاط مثل هذه الفرص النادرة التي يخلق فيها تصريح حقوقي “البوز” عوض مشاهد التفاهة، ومناقشة القضايا التي لا نجد لها جمهورا منتبها خارج هذه المناسبات.
يبدو أن شعلة النقاش ستنطفئ بالسرعة نفسها التي اشتعلت بها.. وكل سريالية ونحن عبثيون.