story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

موت الجنرالات

ص ص

توفي يوم الجمعة الماضي واحد من أكثر جنرالات النظام الجزائري القائم منذ الاستقلال إثارة للجدل والاهتمام والشبهات. عن سن 86 عاما، وبشكل مفاجئ كما هي العادة مع شخصيات من هذا النوع في نظام كالذي يجاورنا من جهة الشرق، حلّ الموت بالجنرال الجزائري خالد نزار، مثيرا أسئلة أكبر وأعقد من تلك التي كانت تطارد الرجل في حياته.
في جميع الأحوال، يظل موت الجنرالات حدثا استثنائيا، مختلفا، مهما ابتعدوا عن دفة القيادة أو تقاعدوا أو اختبأوا خلف قيادة سياسية بدعوى أنها “منتخبة ديمقراطيا”. الجنرالات هم كبار ضباط الجيوش، والقوات المسلحة، وأكثر العارفين بأسرار الدول وملفاتها، البيضاء والسوداء. هم أصحاب أخطر وظيفة عرفها الإنسان على الإطلاق: صناعة الحرب والسلام، أي الموت والحياة، بعد أمر الله بطبيعة الحال.
هكذا كانت وفاة نهاية السنة بمثابة إقبار لواحدة من العلب السوداء للنظام الجزائري. رغم أنه كان طيلة العقود الثلاثة الماضية من بين أكثر جنرالات الأرض استقطابا للأضواء وأغزرهم ثرثرة على صفحات “المذكرات” التي صدرت في خمسة كتب، وخلف ميكروفونات الصحافيين، إلا أن موته المتزامن مع انطلاق جلسات محاكمته في سويسرا بتهم التعذيب وارتكاب انتهاكات جسيمة ضد مواطنين جزائريين، لم تزد الأسئلة السابقة سوى غموضا.
هو في جميع الأحوال، ودون حاجة إلى حكم قضائي، حامل وزر العشرية السوداء التي عاشتاها الجزائر في التسعينيات، و”تقليد” المئات من الأرواح التي قتلها بطش السلطة بالربيع الجزائري الأول الذي حاول أن يزهر في 1988 قبل أن يتم إجهاضه. لكن التفاصيل، جل التفاصيل وأهمها رحلت معه إلى قبره.
هل كان حقا عميلا للفرنسيين وهو “يفر” من الجيش الفرنسي نحو الجزائر عقب استقلال هذه الأخيرة؟ هل كان مجرد أداة للبطش وخلط الأوراق أم كان صاحب عقيدة واختيار؟ هل آمن حقا بما فعله قبل ثلاثين عاما حين “انقلب” على الرئيس الشاذلي بن جديد وأخرج الدبابات ضد نتائج الانتخابات التي منحت الفوز للإسلاميين؟ ثم هل خرج فعلا من السلطة بعد استقالته من وزارة الدافع منتصف التسعينيات أم كان واحدا من تجليات وصف “العصابة” الذي يستعمله بعض الجزائريين؟
نترك هذه الأسئلة لأشقائنا فهم أولى بالجواب عنها، ولنطرح أسئلتنا الخاصة كمغاربة في ارتباط برحيل شخصية مثل خالد نزار: هل كان هذا الرجل عامل تهدئة واستقرار في علاقات المغرب بالجزائر، خاصة أنه تولى قيادة منطقتي تندوف وبشار الحدوديتين في فترات حرجة من حرب الصحراء؟ هل كان عنصرا مساهما في التقارب الذي حصل بين البلدين على عهد الرئيس بن جديد أم على العكس من ذلك، انقلب على مسار التقارب هذا مثلما انقلب على مسار البناء الديمقراطي في بلاده؟
ما نعلمه بكل دقة هو أن الرجل الذي يصفه البعض بالحاكم الفعلي للجزائر في عشرية التسعينيات السوداء، حل ضيفا على الملك الراحل الحسن الثاني في قلب مكتبه بالقصر الملكي للرباط بداية التسعينيات، بعدما تولى وزير الداخلية الراحل إدريس البصري استقباله في المطار، في سياق مفاوضة النظام الجزائري للسلطات المغربية حول عبد الحق لعيادة، الذي يوصف بكونه أمير ومؤسس الجماعة الإسلامية المسلحة، والذي تمكن من التسلل نحو المغرب ليصبح المطلوب الأول في الجزائر حينها.
لا تهمنا تفاصيل هذه القضية التي انتهت بالفعل بتسليم المغرب عبد لعيادة للجزائر، بقدر ما يهمنا دور وموقف الرجل في الملفات التي تمس المصالح المغربية. تحدث الرجل في بعض خرجاته الإعلامية عن تفاصيل اللقاء، وكيف دام قرابة ساعتين غير بعيد عن أعين كل من ولي العهد حينها، الملك الحالي محمد السادس، ووزير الداخلية البصري. ومن البديهي أن ما كان يهم الملك حتى يخص شخصية مثل خالد نزار بجلسة مطولة هو ملف الصحراء، إذ كان الحسن الثاني لا يفوّت فرصة دون أن يحاول العثور على منفذ لحل ينهي القضية و”ينزع الشوكة دون دماء”، لكن لا يبدو من خلال ما تسرب حتى الزن أن ذلك اللقاء أفضى إلى أي اختراق.
المثير في مسار وشخصية الجنرال نزار هو موقفه الملتبس في ملف الصحراء، إذ وبقدر ما كان يبدي عداءه الواضح تجاه المغرب، كما تفرض عقيدة النظام الجزائري، لم تكن هذه العلبة السوداء تصطف بجانب القائلين بحتمية فصل الصحراء عن المغرب، ولا هو ممن اعتبروا بلادهم ظالمة لجارها الغربي في هذا الملف، بل كان جنرالا “يكوي ويبخ”، وهو أخطر أنواع المواقف.
لا مجال، رغم ذلك، لمنح الرجل صك براءة لم يعد له داع بعدما انتقل إلى محكمة الخلود، بل إن ما ثبت في مسار الرجل ويمكن جمع قرائنه من بين سطور مذكراته وتصريحاته، أنه أراد بالمغرب أخطر من مجرد حرب انفصالية في الجنوب، بل كان وهو يهمس في آذان الرؤساء من موقع من يضع أصبعه على الزناد، يحرض على نقل المعركة ضد المغرب خارج المجال الذي حصرتها فيه قواعد الاشتباك، أي في المجال الترابي المتنازع عليه، لكن بعيدا عن عمق الأراضي الشمالية للمغرب والتراب الجزائري.
سنترك الرواية التي تقول إن الجنرال خالد نزار حرض البوليساريو على استهداف المغرب بعمليات إرهابية شاملة، ونذكر فقط بما ثبت من مصادر مختلفة، عن خطة رفعها نزار إلى الرئيس بن جديد في الثمانينيات، تقضي بتحريك قوات جزائرية ضخمة إلى المنطقة الحدودية المقابلة لمكان تمركز العتاد البري المغربي، من الدبابات خصوصا، غير بعيد عن إقليم الراشدية، لا لخوض الحرب، بل لمنع المغرب من تحريك قواته تلك لحماية أشغال بناء الجدار الرملي في الصحراء، ومن ثم استمرار حرب العصابات المفتوحة ضد القوات المغربية.
لولا رفض الرئيس بن جديد، أو ما فوق بن جديد من قوى دولية، لهذا المخطط، لربما كانت المنطقة قد دخلت حربا شاملة مفتوحة، شبيهة بتلك العشرية السوداء التي عاشها جيراننا.
لقد مات خالد نزار ونجا بالتالي من محاكمة دولية، وأفلت معه دون شك الكثير من الأحياء الذين يعلمون أن فتح المجال أمام لعبة السؤال والجواب مع قضاة محايدين قد تفضح جزءا من المسكوت عليه. لكن محاكمات التاريخ لا تؤمن بآجال ولا تعرف التقادم ولا توقفها الموت، وإن كانت من فصيلة موت الجنرالات… لنتابع المحاكمة.