story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

من يخشى ‘ناوم تشومسكي’؟

ص ص

منذ أن أعلن اللساني الأمريكي ‘ناوم تشومسكي’ اكتمال مشروعه اللساني وانتقاله إلى الفكر السياسي والنضال الحقوقي، بات اسما يقلق راحة بال جهات متعددة، في مقدمتها الليبرالية الأمريكية المتوحشة والإمبريالية الصهيونية العالمية. صار الجميع يتفادونه ويخشونه عندما يتكلم أو يشارك في التظاهرات السياسية أو الحوارات الصحافية. لا شك أن رحيل الرجل، الذي يرقد الآن في المستشفى، سيمثل خبرا سارا لمن يسميهم هو نفسه بـ’أرستقراطية الشركات’، وخسارة فادحة للمظلومين وضحايا القتلة والمجرمين الذين ينغل بهم هذا العالم البشع القاسي.

لم ينتصر ‘تشومسكي’ للصهيونية العالمية، ولم يقف إلى جانب كيانها الوهمي في فلسطين المحتلة، رغم أنه يتقاسم مع أنصارها الانتماء إلى الدين اليهودي. ولم يسقط سقطة المفكر الألماني ‘يورغن هابرماس’ المريعة بعد السابع من أكتوبر. ولم يستسلم أمام ضغوط الطغمة الحاكمة في أمريكا والغرب عموما، ولم ينصع لتهديداتهما المختلفة، ولم يبالِ بحصاراتهما وتضييقاتهما وممارساتهما الشنيعة مختلفة الألوان. ولم يرفع الراية البيضاء أمام كل المدافع التي ترغب في وأد الإنسانية وقتل الكرامة والحق والعدل، ليس في فلسطين فحسب، بل في العالم كله.

لكن من يخشى ‘ناوم تشومسكي’ اليوم؟ بلا شك هم خصومه الذين أعلنوا وفاته الأسبوع الماضي، نكاية فيه، بعد أن علموا بدخوله المستشفى بمدينة ‘ريو دي جانيرو’ البرازيلية للعلاج من نوبة دماغية. وهم بلا شك خصومه داخل الشركات الإمبريالية الغربية، الأمريكية على الخصوص، ومراكز التفكير والإعلام من دعاة البروباغندا السياسية، بكافة أشكالها. من يخشونه حقا هم أنصار ‘شبكة التزوير والتزييف’، الذين يرى فيهم أعداء حرية التعبيرة تجربة العدل التي تعمل الإنسانية على تطويرها، بلا كلل أو ملل، منذ قرون؛ هؤلاء الذين يعيدون صخرة ‘سيزيف’ إلى الوادي من جديد.

وهم بلا شك رموز الصهيونية العالمية الغارقة الآن في رمال غزة المقاوِمة، ممن يسعون، بكل الطرق والأدوات التدميرية، إلى التخلص ممن يقلِبون سردياتهم المختلقة، وينسفون مشاريعهم الاستيطانية، ويدحضون ادعاءاتهم التاريخية والدينية، ويعرون حقيقتهم الإجرامية أمام العالم، الخ. في الواقع، لقد نجح ‘تشومسكي’، وهو يهودي قح، في أن يفضح خطط الصهيونية النازية، ويقوض كل مزاعمها حول فلسطين، في كتاباته وحواراته وتصريحاته ومواقفه وسلوكه. بل نجح أيضا في أن يثبت موقف الحق الشرعي الفلسطيني الثابت والقوي في الوجود والعيش.

في الواقع، انتبه ‘تشومسكي’ منذ مدة طويلة إلى رغبة الصهيونية في الاستيلاء على فلسطين، كما انتبه إلى نزوعها الجارف إلى الهيمنة على العالم كله. وما كتابه ‘صناعة الإجماع’ سوى دليل فكري ناصع على هذا الانتباه المبكر، والتنبيه كذلك إلى خطورة نواياها التوسعية. يقول ‘تشومسكي’، في هذا الكتاب الذي ينصح بقراءته لأجل الفهم، إن الصهيونية عملت على تملك وسائل الإعلام والتحكم فيها ماليا حتى تتمكن من التكتم على المجازر الإنسانية في العالم كله، والإرهاب الصهيوني في فلسطين خصوصا. هكذا، جعلت من الإعلام ديدينها الخاص، فحولت مختلف وسائل التواصل الجماهيري، كما يؤكد، إلى “مؤسسات أيديولوجية فعالية وقوية تنجز وظيفة دعائية داعمة للنظام، من خلال الاعتماد القوي على قوى السوق، والافتراضات المستبطنة، والرقابة الذاتية، من دون إكراه.” وهذا ما تفعله الصهيونية والليبرالية الأمريكية بالضبط.

أظن أن الخشية من أفكار ‘ناوم تشومسكي’، ومن أفكار ومواقف غيره من المناضلين العالميين ضد الإمبريالية والصهيونية، ستتواصل، لأن الرجل نجح في أن يكتسب شعبية عالمية، تخول لمؤلفاته أن تنتشر وتروج، حتى وإن حاصرها خصومها؛ ومن ثمة، في أن يضمن لنفسه مكانة ومحبة في قلوب أنصار الحق والعدل والكرامة. وربما تكون هذه السمعة العالمية لدى الرجل وراء إطلاق شائعة موته، مرة أخرى، خلال الأسبوع الماضي، بعيد انتشار خبر دخوله إلى المستشفى في البرازيل.