story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

من الشارع إلى البرلمان.. هل تستطيع المؤسسات احتواء غضب الشباب؟

ص ص

انعقد المجلس الوزاري، بُعيد أيام قليلة من موجة احتجاجات شبابية واسعة عمّت مدنا مغربية عدة، حيث انتهت الجلسة بإصدار توجيهات ملكية اعتبرها كثيرون “جوابا مباشرا” لنبض الشارع، وامتدادا لتفاعل المؤسسة الملكية مع المطالب الاجتماعية المتصاعدة. وقد تضمّنت هذه التوجيهات، إلى جانب مراجعة أولويات الإنفاق في قطاعات التعليم والصحة والتشغيل، الدعوة إلى فتح أبواب المشاركة السياسية أمام الشباب عبر لوائح مستقلة لا تحتاج إلى تزكية حزبية، في ما بدا محاولةً لتقديم “عرض سياسي جديد” يربط بين الحراك الاجتماعي وتجديد النخب وتشبيبها. غير أنّ هذا التوجّه، يثير تساؤلاتٍ عميقة حول جدواه في ظلّ بنية سياسية مغلقة تجعل من الانخراط المؤسسي مسارا محدود الأفق.

ليس من وظيفة الشباب المحتج أن يتقمّص أدوار المسؤولين أو أن يُعوّض النخب السياسية في البرلمان أو الحكومة. فالدعوات التي تُوجَّه إليهم اليوم من أجل “دخول المؤسسات” يصعب اعتبارها خارج سياسة الاحتواء “المؤسساتي” للاحتجاج التي يُراد من خلالها تفريغ دينامية الشباب داخل متاهات القنوات الرسمية محدودة الفاعلية، والتي تهدف إلى تحويل الضغط الشعبي إلى مشاركة رمزية تُزيّن المشهد السياسي دون أن تغيّر توازناته العميقة.

إنّ الأزمة السياسية في المغرب ليست أزمة نخب بقدر ما هي أزمة إرادة سياسية. فالنخب الكفؤة والنزيهة موجودة في مختلف الحساسيات الفكرية والسياسية، لكنها أُقصيت عمدًا عن المشهد لصالح نخب انتهازية وموالية للسلطوية، استُقدِمت لتملأ الفراغ وتؤمّن استمرارية النسق القائم. لسنا إذن أمام فقرٍ في النخب، بل أمام فقرٍ في الإرادة السياسية التي تمنح المؤسسات فعاليتها. ولا سبيل لتجاوز هذا الفقر إلا عبر ضغط شعبي سلمي مستمر يعيد التوازن المفقود بين الدولة والمجتمع.

إنّ ساحة الفعل الحقيقية للشباب في هذه المرحلة هي الشارع، ففيه تتجلّى قوة حركيتهم وقدرتهم على إحداث التغيير. أما داخل المؤسسات المفرغة من مضمونها، فيتحوّل حضورهم إلى تمثيل رمزي أشبه بأدوار “الكومبارس” في مسرح سياسي محكوم مسبقا بنتائجه.

لقد برهنت التحركات الشبابية الأخيرة أنّ الشارع قادر، في أيام قليلة فقط، على تحقيق ما عجزت عنه كل “المعارضة” داخل البرلمان خلال السنوات الماضية، إذ دفعت الدولة إلى رفع ميزانيتي الصحة والتعليم، وهو ما يعكس مدى فاعلية الضغط الشعبي السلمي. غير أنّ هذه الزيادات المالية، لن تُترجم إلى نتائج ملموسة ما لم تُصاحبها إرادة حكومية صادقة في محاربة الفساد وتفعيل المساءلة البرلمانية. فبدون مؤسساتٍ قوية ونزيهة، تظل الأرقام مجرّد شعارات مالية بلا أثر اجتماعي حقيقي.

وفي الوقت الذي يُطلب فيه من الشباب الترشح في لوائح مستقلة دون الحاجة إلى تزكية حزبية، يظل السؤال الجوهري قائمًا: نحو أيّ أفقٍ سياسي تُوجَّه هذه الدعوة؟

وإذا تأملنا الواقع المؤسسي الراهن، سنجد أن سقف الأفق محدود. فوفقًا للفصل 47 من الدستور المغربي، يُعيَّن رئيس الحكومة من الحزب المتصدر انتخابيًا (وليس من المرشحين المستقلين). وقد جرت العادة أن يُعيَّن الأمين العام لذلك الحزب رئيسًا للحكومة، ما يجعل المشاركة الفردية، مهما كانت نزيهة أو شابة، خارج دوائر التأثير الحقيقية.

عمليًا، سيكون رئيس الحكومة المقبل واحدًا من بين الأمناء العامين للأحزاب الثمانية المعروفة الممثلة حاليا في البرلمان. ولا أحد منهم يتمتّع بشعبية تُذكر لدى الشباب المحتجّ. فماذا يُقدَّم إذن لهؤلاء الشباب كحلولٍ للأزمات الاجتماعية الخانقة؟ بعض المقاعد البرلمانية الرمزية التي يُراد لهم من خلالها أن “يعارضوا” رئيس الحكومة القادم في برلمان محدود التأثير، لا يُغيّر من واقع الأمر شيئًا.

قد يقول قائل: ولماذا لا تؤسس النخب المعارضة للسلطوية، التي تحظى بصدى وثقة عند الشباب، حزبًا يعكس تطلعاتهم، وتتصدر هي المشهد الانتخابي؟ وكأننا في فضاء سياسي مفتوحٍ لا يَضيق بالاختلاف، ولا يُجرّم المعارضة السياسية الرافضة للاستبداد، ولا يحتكر الإعلام والمال والإدارة في دوائره الخاصة. كأننا في بيئة تسمح بظهور قوى جديدة تعبّر عن مطالب الناس وتترجمه إلى مشروعٍ سياسيٍّ وطني، بينما الواقع غير ذلك تمامًا.

لا يمكن للنخب المعارضة الصادقة أن توهم الشباب بآمالٍ كاذبة تعرف مسبقًا استحالة تحققها في ظلّ واقعٍ مغلق، حيث تملك السلطة مفاتيح الترخيص والتمويل والتغطية الإعلامية، وحيث تُقيَّد صلاحيات البرلمان والحكومة بسقف صارم من التحكم. إنّ الدعوة إلى تأسيس حزب جديد في مثل هذا السياق والانخراط في لعبة معروفة مخرجاتها ليست إصلاحا، بل انتحارا سياسيا مؤكدا.

فالآمال لا تتحقق من إرادة النخب وحدها، بل من شروط الحرية التي تُتيحها البيئة السياسية، والحرية في أنظمتنا ليست حقًا سياسيًا ثابتا، بل امتيازا يُمنح ويُسحب وفق هوى السلطوية. لذلك فالمطلوب ليس حزبا جديدا داخل بنية قديمة، بل بنية سياسية جديدة تُعيد للسياسة معناها، وتجعل تأسيس الأحزاب ثمرة طبيعية لحياة ديمقراطية حقيقية، لا انخراطا في معركة محسوم فشلها مسبقا.

إنّ أي دعوة جادّة لانخراط الشباب في الحياة السياسية تفترض أولا تهيئة الفضاء المؤسساتي بما يتيح لهؤلاء الشباب هامشا حقيقيا للتأثير والمبادرة. فلا معنى لدعوات الانخراط ما دامت فاعلية البرلمان ضعيفة أمام قوة الفعل السلمي في الشارع، الذي بات أكثر قدرة على التأثير في القرار العمومي من المؤسسات التمثيلية نفسها. وحين يكون الشارع أكثر حيوية وتأثيرا من المؤسسة التشريعية، تغدو الدعوة إلى المشاركة من داخلها أقرب إلى محاولة لاستيعاب الفعل الشبابي داخل بنية مفرغة، لا إلى ترشيده أو تأطيره في مسار فعلي للإصلاح.