story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

من أجل تسوية فكرية ديمقراطية تعددية لإصلاح مدونة الأسرة

ص ص

غريبة هي هذه التعليقات المتسرعة التي تسطح النقاشات الجارية مغربيا، بخصوص إصلاح مدونة الأسرة، من خلال اختزالها في اختلاف وجهات النظر بين تيارين مجتمعيين اثنين: أحدهما “محافظ وتقليدي”، وثانيهما “منفتح وتحرري”.

إن أول خطوة على طريق الفهم السليم لهذا الجدال العقيم هو التحرر من هذا التقسيم ذاته، نظرا لما فيه من تعسف على حقيقة الأطراف التي تعلو أصواتها على منابر النقاش المجتمعي حول قوانين الأحوال الشخصية، باعتبارها، جميعها أصواتا محافظة سياسيا وفكريا.

فهي محافظة سياسيا، لأنها كلها تتبنى مشاريع سياسية يمينية عبارة عن خليط من الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الهجينة، فهي تنتصر لاقتصاد السوق، لكن تحول بين أي منافسة حرة وحقيقية ، كما أنها لا تخفي التزامها بوصفات المؤسسات المالية الدولية وتفتخر أنها المعبر الحقيقي عن توجهاتها، والمنفذ الأمين لتعليماتها الإصلاحية المنشودة. وهي، أيضا، محافظة فكريا لأن كل جناح منها ينطلق من رؤية محافظة، بل مغرقة في المحافظة فيما يتعلق بالمرجعية التي يدعي الانطلاق منها.

وبيان ذلك أن الذين يتصدون للإصلاح باسم فكرة حقوق الإنسان ينطلقون من تصورات محافظة للمنظومة الدولية لهذه الحقوق. وفي الوقت ذاته،  ينطلق أنصار “الدفاع عن الشريعة” مما استقر عليه  الموروث الفقهي التقليدي من دون أي اجتهادات جدية ومتجددة قادرة على مواكبة التطورات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الراهنة.

يتعلق الأمر بصراع بين أجنحة اليمين الفكري والسياسي المغربي، حتى وإن رفع بعضها شعارات ذات نكهة “يسارية” أو “ليبرالية” فضلا عن “الإسلامية”، إلا أنها في عمقها ذات جوهر محافظ بالمعنى المشار إليه سالفا.

إننا ما لم نتحرر من القوالب الجاهزة، ونتخذ مسافة نقدية منها، سواء تلك التي تنهل من اللاهوت السياسي الموروث أو تلك التي تنهل من الإيديولوجيا المحافظة لحقوق الإنسان، لن نستطيع قراءة واقع الأسرة المغربية القراءة السليمة، لأن تلك القوالب القبلية المفروضة ستبقى تشكل عوائق إبستمولوجية تحول بيننا وبين رؤية الوقائع الأسرية كما هي في ديناميتها وحيوتها وتطوراتها المتسارعة.

نحتاج إلى مراجعات عميقة وجدرية للتوجهات السائدة، على ضوء آخر مستجدات الجدل الفلسفي السياسي المعاصر، من أجل نقد هادف وبناء سواء لمنظومة حقوق الإنسان في صورتها الفردانية، بدعوى “المعاصرة” و”التحديث” و”الانفتاح” أو للمنظومة الفقهية التقليدية التي ينهل منها أنصار اللاهوت السياسي المحافظ، بحجة “المعاصرة” و”الهوية” والدفاع عن “الثوابت المجتمعية الجامعة”. مناقشة تبتعد عن حوار الطرشان الجاري، والذي لا ينصت الخائضون فيه إلا لذاتهم المغلقة ونوازعهم الضيقة، من دون إعطاء حق الكلمة للمخالفين، ومحاورتهم في عين المكان، بل يوظفون كل أدوات الإقصاء والسباب والتنابز بالألقاب من أجل سلب المخالف لهم حقه في الكلام.

تفيدنا الفلسفة السياسية المعاصرة في كشف مجموعة من الحقائق الاجتماعية والثقافية، التي من شأنها أن تضعنا في موقع نظري متقدم على أطروحات كل من أنصار “المعاصرة” وأنصار “الأصالة” في مجتمعنا؛  وعلى رأسها  أنه ليس صحيحا أن المجتمعات الغربية قد قطعت كليا مع الثقافات ما قبل الحديثة، وأصبحت كلها عقلانية خالصة، وليبرالية صافية، وديمقراطية تامة، فالتقاليد غير الليبرالية وغير الديمقراطية ما زالت ذات تأثير بالغ في الثقافة الشعبية، بل وحتى في الفلسفة السياسية الأكاديمية، بل إن الفيلسوف السياسي المعاصر ويل كمليكا ( Will Kymlicka ) يعتبر احتدام النقاش الفلسفي اليوم حول المبادئ الديمقراطية الليبرالية دليل على وجود هذه التقاليد “المحافظة”.

وقد فصل الفيلسوف المذكور في جل كتاباته في نقد ما قامت به تاريخيا كل الديمقراطيات الغربية المعاصرة من ممارسات منافية للديمقراطية ذاتها ولليبرالية نفسها تجاه المجموعات الثقافية المغايرة والأقليات العرقية أو الدينية، والنساء، والعمال وغيرهم  ممن سماهم فرانز فانون بمعذبي الأرض من السكان الأصليين، ونضيف إليهم نحن هنا المهاجرين  الذين يعانون الويلات من النزعات العنصرية المقنعة والظاهرة في الديمقراطيات المعاصرة، والتي حرمت تلك المجموعات، في أكثر الأحيان، من الحقوق المدنية ومن تكافؤ الفرص وحتى من المواطنة الكاملة.

وفي هذا الصدد يذكر كمليكا أشكال متعددة من أيديولوجيات الاستبداد العرقي والهيمنة الذكورية أو النقاوة الدينية، التي لا تزال موجودة بأشكال خفية، داخل الثقافة الشعبية الغربية. لكن، الأمر لا يقف عند هذا الحد بل يتجاوزه، في نظر فيلسوفنا، عند مفارقة المفكرين الليبراليين والأنواريين التي تجمع بين موقفين متناقضين: القول بالطبيعة البشرية الواحدة للبشر ولا شيء يبرر اللامساواة، والقول، في الوقت ذاته، بالاختلاف الطبيعي بين الرجال والنساء وتسويغ اللامساوة والتمييز.

ورغم الجهد الفكري الذي قام به الفكر الليبرالي لتجاوز فكرة دونية المرأة يسجل كمليكا اعتبار رائدات الفلسفة النسوية أن المبادئ الفلسفية، التي تمت صياغتها في مرحلة سادت فيها العقليات والمصالح الذكورية، لا تزال قاصرة عن الإدراك الجيد لحاجات النساء وعن إعطاء تجاربهن المكانة التي تستحقها.

إن المطلع على الأدبيات الفلسفية النسوية المعاصرة، يلاحظ مع كمليكا، أن التنظيرات والتشريعات المناهضة للتمييز لم تأت بالمساواة بين الجنسين. ففي الولايات المتحدة وكندا تتفاقم مظاهر التمييز ضد النساء على مستوى الأجور في العمل وهناك قلق تجاه “نسونة” الفقر. فداخل الأسرة تقوم النساء بالقسط الأكبر من العمل المنزلي وحتى عندما تمارسن شغلا وفق نظام الحصة الكاملة. وتظهر الدراسات أنه حتى الأزواج العاطلين عن العمل يقومون بنسبة من العمل المنزلي أقل مما تقوم به الزوجات اللاتي تشتغلن أربعين ساعة في الأسبوع. فضلا عن ذلك يتزايد باطراد العنف الأسري والاعتداءات الجسدية.

تقول إحدى الفيلسوفات النسويات ملخصة الوضع:  

“لقد كان مقتضى المساواة أمام القانون عاجزا تماما عن منح النساء ما نحن في حاجة له وتمكينهن مما مانع المجتمع دوما في إعطائهن إياه متعللا بوضعهن البيولوجي الخاص: إمكانية التعبير عن ذواتهن وعن استقلاليتهن الشخصية مع ضمان حد أدنى من الاحترام والكرامة”.

هكذا ننبه الذين ينتصرون للمقاربة القانونية، ويعتقدون أنها الحل الشافي والكافي لمشاكل الاسرة والنساء، إلى ما تطلعنا عليه الدراسات الفلسفية المعاصرة، خاصة في الفضاء الأنجلوساكسوني، بخصوص قصور كل المقاربات للمساواة بين الجنسين، التي تغفل عما يحدث داخل كوكبة الأسرة، والتي تم تسليط الأضواء عليها بشكل يجعلها اليوم أكثر فأكثر جلاء. وتظل مسألة معرفة السبب الذي يمنع من أن يحظى العمل المنزلي بالاعتراف العمومي مسألة مطروحة.

فالأسرة، كما يقول ويل كمليكا، في سياق تقديمه للفلسفة النسوية المعاصرة، هي إذن إطار هام للنضال من أجل المساواة بين الجنسين. ويبدو أن النسويات هن أكثر فأكثر إجماعا على ضرورة أن لا يتوقف ذلك النضال عند المسائل المتعلقة بالتمييز ضد النساء داخل المجال العام وإنما لابد أن يواجه أيضا النماذج السائدة للعمل في البيت وما تعرضت له النساء من امتهان على صعيد الكوكبة الخاصة: أي الأسرة.

ليس صحيحا أن الفقه الإسلامي التقليدي هو الذي يحصر دور المرأة داخل هذه الكوكية الخاصة، كوكبة الأسرة، بل إن معظم الفلاسفة الغربيين لم يتحرر من هذه النظرة، وفي هذا الإطار تقول إحدى الفيلسوفات النسويات المعاصرات:”تتعارض نظريات آدم سميث وهيغل وكانط ومل وروسو ونيتشه في كل المسائل، لكن من الغريب أن هؤلاء الفلاسفة عندما يتطرقون إلى موضوع المرأة يبدون وكأنهم في جبهة متراصة“: يتفقون على حصر النساء في الكوكبة المنزلية باعتبار أن المرأة لا تعترف إلا بروابط الحب والصداقة فهي تمثل خطرا في حلبة الصراع السياسي إذ يمكن أن تضحي بالمصلحة العامة لصالح ارتباطاتها الخاصة وتفضيلاتها الشخصية“.

هذه النظرة الضاربة الجدور في الثقافة التقليدية المجتمعية، في أمم الغرب كما في أمم الشرق، وفي دول الشمال قبل دول الجنوب، لم تجد معها المقاربات القانونية للمساواة بين الجنسين نفعا. ومن الخطأ اعتبار مجتمعاتنا متخلفة وتحتاج إلى قوانين وتشريعات يمكن الاعتماد عليها في المحافظة على كيان الأسرة في إطار من التكافؤ والمساواة.

وهنا لا نخص بالذكر أنصار القوانين “الحداثية”، ولكن أيضا أنصار القوانين المستمدة من فكر المحافظة والتقليد، فلا القوانين المستمدة من المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، كافية لوحدها، لحل مشاكل المرأة، ولا القوانين المستمدة من الموروث الفقهي التقليدي كفيلة بالمحافظة على تلاحم الأسرة. إننا في حاجة، والحالة هذه، إلى تمرين فكري وثقافي وتربوي، يقطع مع المقاربات الفكرية الجامدة، التقليدية والمعاصرة معا، والتعالي عن كل أشكال التوظيف السياسي والإيديولوجي للموضوع، وتجنب كل ما من شأنه إلهاء مجتمعنا في المعارك الغلط التي تفتعلها في كل المرة التيارات المتصارعة، خدمة لأجنداتها السياسية الخاصة.

هل معنى هذا أنه يتعين علينا انتظار عقود من الزمن قد يحتاجها هذا التمرين الفلسفي الذي ندعو إلى اختباره، ونترك دار لقمان على حالها، أو نتجاهل الدور الممكن للمقاربة القانونية في هذا التشريع أن تساهم به؟

الجوب قطعا سيكون بالنفي، فللمقاربة الإصلاحية للقوانين والتشريعات، والخاصة هنا بمدونة الأسرة، دور لا يمكننا الاستخفاف بأهميته، لكن بمنهج تشريعي لا ينتصر لا لأنصار “الحداثة التشريعية” ولا لأهل فقه الأسرة التقليدي. بل ندعو إلى منهج تشريعي يحترم كل الآراء المطروحة في ساحة النقاش العمومي، فلا المحافظون مستعدون للمس بما يعتبرونه مقدسات شرعية ولا الحداثيون مستعدون للقبول باستمرارية فرض  القوانين التقليدية عليهم فرضا مطلقا.

وفي هذا الإطار نقترح تسوية بيداغوجية للصراع المطروح، تؤمن بثقافة التعدد والاختلاف تقوم على المبادئ التالية:

  1. تبسيط المسطرة القانونية التي تتيح للمواطنين تحديد الكيفية التي يريدون بها توزيع تروثهم على أفراد أسرتهم بعد وفاتهم حسب معتقدهم الشخصي الذي تضمنها الشريعة كما يضمنه الدستور، مع التخفيظ  من تكاليف الرسوم المطلوبة لهذا الإجراء إلى أقصى حد ممكن، عوض هذه التكاليف الباهظة التي تبرم بها عقود “الصدقة” أو “الهيبة” وغيرها.
  2. تنبني مؤسسة الزواج على عقد، الذي يعتبر شريعة المتعاقدين، وعليه فيمكن للمرأة أن تشترط عدم قبولها بالتعدد في ذلك العقد، وحينها لا يحق للرجل الذي قبل بهذا العقد، بمحض إرادته، سلوك مسطرة التعدد.
  3. التنصيص بشكل واضح وصريح أنه تبقى المرأة التي يهلك زوجها في بيت الزوجية معززة مكرمة، كما كانت في حياة زوجها، وأنه لا يحق للورثة الآخرين، وفي مقدمتهم أولادها مزاحمتها في بيت الزوجية، باي شكل من الأشكال، ولا يستفيدون بحقهم العيني من الإرث المتعلق ببيت الزوجية إلا بعد وفاتها. ويمكن تعميم الموقف ذاته على البنات اللواتي من دون إخوان ذكور وتوفي والدهم.
  4. إن الدور الذي تقوم به المرأة التي تسمى ب”ربة البيت” وليس لها عمل خارجي، لا يقل قيمة بالنسبة للمجمتع، وعليه فلا ينبغي ربطه فقط بحقها في النفقة الزوجية، مادامت أعمال الرعاية هي خدمة مجتمعية عمومية، تقتضي تعويضات مجتمعية، تتكفل بها الدولية، ويتم تحديد قيمتها بحسب التكلفة المعيشية، مع ضمانات التغطية الصحية والاجتماعية، تماما مثل المرأة العاملة والموظفة، بما فيها تعويضات التقاعد، الذي تضمن للمرأة التي بلغت هذا السن، حدا أدنى من العيش الكريم عوض أن يتركها المجتمع، الذي أفنت عمرها في خدمته من داخل قلعة الأسرة، عالة على أي من أقاربها.
  5. اعتماد قوانين صريحة تضمن حقوق الطفل، أيا كانت وضعيته الإنجابية، وعدم تحميله خطأ الآخرين، ماديا ومعنويا، اعتمادا على الوسائل الحديثة في إثبات النسب، بشكل غير قابل للإفلات أو التحايل.
  6. الاعتراف الكامل بحق المرأة في الوصاية على أطفالها وكفالتهم كما هي مكلفة برعايتهم والنفقة عليهم، تماما مثل والدهم بلا أي تمييز.

هذه وتلك، هي المبادئ والأفكار، التي نعتقد أنها يمكن أن ترشدنا إلى بوصلة ديمقراطية تعددية لإصلاح مدونة الأسرة، تتجاوز اللغط الإيديولوجي والسجال السياسي الجاري في مجتمعنا، والذي نعتقد أن الاستمرار فيه يعد جزءا من المشاكل المطروحة ولا يمكن لأي طرف الاعتماد عليه في ابتكار الحلول المناسبة لها.