منصّات تضيء الساحة وتُعتم الوعي

في لحظات الأزمات الوطنية الكبرى، لا يُقاس نضج الدولة فقط بقدرتها على إنتاج البرامج أو إطلاق المبادرات، بل بمدى انسجام سياساتها العمومية مع وجدان شعبها وتقديرها لرمزية الزمن الاجتماعي الذي تعيشه الجماعة الوطنية.
فالسياسة لا تُمارَس بالأرقام وحدها، بل بالحس، بالتوقيت، وبما تقوله الأفعال قبل التصريحات.
من هذا المنظور، لا يمكن التعامل مع مهرجان “موازين” هذه السنة كأنه مجرّد نشاط فني عابر.
فهو، في صيغته الحالية، لم يعد مهرجانًا ثقافيًا فقط، بل تحوّل إلى مرآة مكبّرة لاختلال بوصلة الفعل الحكومي في قراءة أولويات اللحظة الوطنية، وتقدير توازناتها الرمزية.
المسألة لا تتعلق بالموسيقى في حد ذاتها، ولا بالفن كرافعة للإنسان، بل بما يُقال من خلال هذا الاحتفال، وفي هذا التوقيت تحديدًا.
فكيف يُطلب من المواطنين القبول بالصبر والتقشف والسكوت عن تدهور قدراتهم الشرائية، ثم يُدعون فجأة إلى “الاحتفال”، في وقت لا تزال فيه جراح الحوز مفتوحة، وآثارها النفسية والاجتماعية قائمة؟
في وقت يُواجه فيه المغاربة نار الغلاء، وتُحيطهم يوميًا أخبار الحرب والدمار في غزة، التي لا تزال تُربك ضمير من بقي له ضمير، وتكسر القلوب التي لم تفقد بعد حساسيتها الإنسانية؟
ثم أي انسجام هذا بين التجاوب التلقائي للشعب المغربي مع الإهابة الملكية التي ألغت شعيرة عيد الأضحى بعدما فشلت السياسات الفلاحية في توفير الأغنام… وبين مشهد مدينة تحولت إلى منصّة للفرجة، بكل ما يرافق ذلك من تعبئة أمنية ولوجستيكية وإعلامية؟
هنا لا يتعلق الأمر بـ”موازين” كفكرة، بل بـالعقل السياسي الذي يسمح بتمرير هذا النوع من المفارقات.
إننا لا نحتج على الفن، بل على غياب الحسّ، على ضعف الذكاء الرمزي للسلطة التنفيذية، التي يبدو أنها فضّلت تمرير الحدث كما هو، دون أن تتفاعل مع السياق أو تُعدّل من صورته، وكأن شيئًا لم يحدث.
وما يزيد الأمر التباسًا هو صمت البرلمان ونواب الأمة، الذين يُفترض أن يكونوا صوت الرقابة والمساءلة في مثل هذه المحطات الرمزية.
فأين هي اللجان المكلفة بالثقافة، بالشؤون الاجتماعية، بالمالية؟
هل تحوّلت الثقافة إلى شأن “غير قابل للرقابة”، فقط لأنها لا تدخل في جداول الحسابات المالية المباشرة؟
ثم إن القول بأن “موازين” لا يُموّل من المال العام، وإن كان صحيحًا على المستوى التقني، لا يُلغي سؤال المشاركة غير المباشرة لمؤسسات الدولة في إنجاحه: تأمينًا، تنظيما، دعما إعلاميا ولوجستيًا، وحتى صمتًا سياسياً!
إنها لحظة تختبر فيها السياسات العمومية مدى احترامها للرمزية الاجتماعية، وقدرتها على صياغة معنى متماسك بين ما يُقال وما يُنجز.
ولا يمكننا أن نُخفي هنا هذا الشعور المتنامي لدى فئات واسعة من الناس، بأن الحكومة تُدبّر البلاد وكأنها تدير موسما من مواسم الفرجة، حيث يمكن تعويض الشعائر بالاستعراض، والألم بالصوت العالي، والمعنى بالبهرج.
ولأن للثقافة دورًا أخلاقيًا في المجتمعات، فإن هذا الانفصال بين “الحدث الفني” و”الواقع الاجتماعي” يُهدد بتحويل الثقافة إلى أداة تطبيع رمزي مع التناقض، بدل أن تكون أداة تحرر واستعادة للمعنى.
لقد كان رموز الوطنية المغربية الأوائل على وعي حاد بهذه العلاقة بين الثقافة والمعنى:
عبد الله إبراهيم رأى أن جزءًا من بناء “الدولة الوطنية” هو أن تكون هذه الدولة في مستوى اللحظة، تصغي لنبضها وتقرأ ما وراء أرقامها؛
علال الفاسي نبه في أطروحته حول “النقد الذاتي” إلى ضرورة ألّا تنفصل السياسات الثقافية عن همّ الإنسان المغربي وتاريخه ومجاله وكرامته؛
أما المهدي بن بركة، فقد ذهب أبعد من ذلك، حين اعتبر أن الثقافة ليست ترفًا، بل مشروع تحرر، ومعركة وعي، وأداة لإعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والسيادة، بين المجتمع والسياسة.
إن هذا الوعي الغائب اليوم عن السياسات العمومية، هو ما يُحوّل الثقافة إلى واجهة صاخبة تخفي صمتًا عميقًا.
فالفن حين يُعزل عن القيم، يتحوّل من جمالية تُهذب الإنسان إلى فرجة تلهيه.
وحين يُستعمل لتزيين الركام، بدل الإشارة إليه، يُصبح غطاءً على هشاشة الخيارات العمومية.
المغاربة لا يرفضون الفرح، ولا ينكرون على أحد حق الترفيه والترويح.
لكنهم يُدركون، بحسّهم العفوي، أن الفرح الصادق لا يأتي مفروضًا، ولا يُسوَّق على أنه سياسة عمومية.
وأن الأهم من الاحتفال، هو الاعتراف.
الاعتراف بوجع الناس، بضعف القدرة الشرائية، بعدم إنصاف القرى، بتدهور التعليم والصحة، وبسؤال الكرامة قبل كل شيء.
لهذا، فإن الخطر اليوم لا يكمن في أن نغني وسط الركام، بل في أن نكف عن رؤيته.
في أن نصبح مأخوذين بالبهرج، ونُطبّع مع الصورة دون مضمون، ومع العرض دون سياق، ومع السياسات التي تُسلّي، بدل أن تُصلح.
فالمعركة ليست على من يصعد إلى المنصة، بل على من يُحدّد المعنى.
لا عن من يُغني، بل عمّا إذا كنا لا نزال نملك رفاهية السؤال:
من يُقرر ما يُحتفل به؟
ومن يملك أن يؤجله، حين تقتضي اللحظة ذلك؟
حين يُصبح هذا السؤال بلا جواب… فاعلم أن الخشبة صارت أكبر من المسرح، وأننا نرقص على الصدع، لا على النغم.