story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

مقامات الروح -بوح- من خلال تجربة شخصية

ص ص

لا تزال العلاقة بين التيارات الإسلامية المختلفة، كالسلفية والتصوف، تمثل فضاءً غنياً للتأمل والتدبر، وإذا كان المغرب قد نجح في صياغة نموذج فريد يحتضن هذا التفاعل داخل سياقٍ تاريخيٍّ واجتماعيٍّ خاص، فإن التجربة الذاتية قد تجعل هذا النقاش الفكري أشد قرباً وأثرى معنى.

لقد بدأتُ رحلتي مع الفكر السلفي منذ نعومة أظفاري، بحكم نشأتي في بيئة مشبعة بروح هذا التيار الذي أثر في منظومتي المعرفية وأسلوب تفكيري، كان السلفيون في أعيننا حماةً للعقيدة وحراساً للمنهج القويم، لكن مع مرور الوقت، بدأت الأسئلة تتكاثر في داخلي، ووجدتني في مواجهة كثير من المواقف التي بدت لي متعارضة مع مقاصد الدين الكبرى.

وفي خضم مرحلةٍ من البحث، كتبتُ بين عامي 2011 و2017 مقالاتٍ متعددة نقدت فيها التيار السلفي بحدة. كانت تلك الفترة شاهدةً على صعود موجات من الفكر المتطرف التي هزت العالم الإسلامي، وأدركتُ أن التصدي لهذا الفكر واجبٌ لا يُمكن التنصل منه.. حتى إني كتبت مقالاً بعنوان “السلفية دين الإرهاب” سنة 2014، حيث ركزتُ فيه على ارتباط الفكر السلفي المتشدد بحركات العنف المسلح التي اتخذت من النصوص مبرراً لتجاوزاتها.

لكن، وعلى الرغم من صرامة المواقف السابقة، قادتني محطات الحياة إلى مراجعة الذات..، كان السجن إحدى تلك المحطات التي منحتني فرصة للتفكر والتأمل في المواقف السابقة. هناك، في عزلتي عن صخب العالم، بدأتُ أفكك الصور النمطية التي صنعتها عن السلفية وأُعيد النظر في الإرث الذي كنت جزءاً منه، أدركتُ أن كثيراً من مواقفي السابقة كانت وليدة انفعالات أكثر منها نتاج دراسة معمقة.

خرجتُ من السجن بوعيٍ مختلف، وبدأتُ أرى السلفية من زاوية جديدة، زاوية تحترم إسهاماتها في تكوين شخصيتي الثقافية والدينية. لم أعد أراها عدواً فكرياً، بل جزءاً من التراث الإسلامي الذي له ما له وعليه ما عليه، مع ذلك، لا أعتبر نفسي سلفياً بالمفهوم الأيديولوجي، بل إنني الآن أقف على مسافة واحدة من مختلف المدارس الفكرية الإسلامية، متأملاً في كل تيارٍ بما يقدمه من جوانب إيجابية دون أن أسمح للخلافات الفكرية أن تفرق بيننا كأمة مسلمة واحدة.

وكانت زيارتي للزاوية القادرية البودشيشية بمداغ خطوةً عميقة على درب التصالح مع الذات ومع مختلف التيارات الإسلامية، لم تكن الزيارة مجرد فعلٍ عابر أو طقسٍ اجتماعي، بل كانت لحظةً فارقةً في رحلتي الروحية، عندما وطأتُ تلك الأرض المباركة، شعرتُ أنني أترك خلفي أحمال الماضي لأدخل في فضاء من الصفاء الروحي الذي افتقدته لسنوات.

الزاوية القادرية البودشيشية ليست مجرد مكان، بل هي عالم من الروحانية يلتقي فيه السائرون إلى الله، في تلك الليلة المباركة من ليالي شهر رمضان، وجدتُ نفسي محاطاً بمحبين من مختلف أنحاء المغرب وخارجه، تجمعهم كلمة التوحيد وروح المحبة.. لم يكن المشهد غريباً، لكنه كان مهيباً. رأيتُ ألسنةً لا تنقطع عن ذكر الله، ووجوهاً تستنير بسكينة الإيمان، وقلوباً تصطف في حضرة من حضرات القرب.

ما شدني إلى تلك الزاوية ليس فقط ذكرها أو أورادها، بل الأخلاق التي غمرتني منذ اللحظة الأولى، وجدتُ في شيخها وأبنائه الكرام مثالاً للصفاء والتواضع، هناك، لم أشعر بأني غريب، بل شعرتُ أنني عدتُ إلى مكانٍ ينتمي إليه قلبي منذ الأزل.

إني لا أعد نفسي متصوفاً، فالتصوف مقام عالٍ لا يُمكن إدراكه بمجرد زيارة أو رغبة عابرة، لكنه مقامٌ يستحق أن يُقترب منه بمحبة وتقدير، التصوف، كما أدركته في تلك الليلة، ليس مذهباً فكرياً أو طقساً شعائرياً، بل هو حالة من التواضع والانكسار أمام عظمة الله، هو زاد الروح الذي يُعيدها إلى أصلها النقي.

وإن كنتُ قد كتبتُ سابقاً عن السلفية في نقدها، فإني اليوم أكتب عنها من زاوية احترامها كرافدٍ فكريٍّ إسلامي له إسهاماته، وإذا كنتُ قد اقتربتُ من التصوف، فليس ذلك بحثاً عن انتماء جديد، بل هو رحلة لتغذية الروح بما يعيد إليها توازنها المفقود.

إن الإسلام، كما أدركته من تجربتي، أوسع من أن يُحصر في تيارٍ واحدٍ أو مذهبٍ بعينه، إنه دين يجمعنا جميعاً، سلفيين وصوفيين وأشاعرة، تحت لواء كلمة التوحيد.. ولعل أعظم درس تعلمته من رحلتي الروحية هو أن الخلاف الفكري لا يجب أن يكون سبباً للفرقة، بل يمكن أن يكون مدخلاً لفهم أعمق للهُدى الذي بعث الله به نبيه الكريم.

ومن هذا المنطلق، أدعو كل من ينتمي إلى هذه التيارات المختلفة أن يضع جانباً كل ما يفرقنا، وأن نركز على ما يجمعنا، فالزمن الذي نعيشه اليوم مليء بالتحديات التي تهدد كيان أمتنا، ولا سبيل إلى تجاوزها إلا بالوحدة والتكاتف.

وأعود لتجربتي في الزاوية القادرية البودشيشية التي تشرب حبها قلبي، واعتبرها تذكيرا لي ولغيري بأن الروح بحاجة إلى محطات من السكينة لتستعيد نقاءها، هذا الذي أفعله بزيارة مقامها كلما فتر ايماني، وإن كان التصوف هو تلك المحطة التي تسمح للقلب أن يرتوي من نبع الإيمان، فإنني أراه اليوم ضرورة روحية في عالم مليء بالضجيج المادي.

ليس في هذه الرحلة انتقال من فكرٍ إلى آخر، بل هو انتقالٌ من صخب النفس إلى سكون القلب، إنها تجربة تُعلمك أن المعرفة الحقيقية ليست في كثرة الجدال، بل في لحظة صادقة تواجه فيها نفسك أمام الله، وفي تلك اللحظة، تدرك أن كل ما كنت تراه اختلافاً كان في جوهره تكاملاً، وأن السائرين على درب الله، مهما اختلفت مناهجهم، هم في النهاية شركاء في رحلة البحث عن الحق.

وبهذا الوعي الجديد، أجد نفسي ممتناً لكل ما مررتُ به، لكل فكرة اعتنقتها أو تخليتُ عنها، ولكل تجربة قادتني إلى ما أنا عليه الآن.. أسأل الله أن يرزقنا جميعاً صدق النية وصفاء السريرة، وأن يجمع قلوبنا على طاعته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.