story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

مصطفى كرين: “سوق الشتا”

ص ص

المطر صار سلعة تباع وتشترى، ولم يعد، على غرار العديد من الهبات الربانية الأخرى، متاحاً للجميع. وقريبا ستصبح هناك بورصة دولية للمطر، هي التي ستحدد ثمن اللتر المكعب من المطر حسب السوق وحسب الموسم وحسب المكان وحسب العرض والطلب.
لقد أصبحنا فعليا في زمن لم يعد الأمر يقتصر فيه على بيع الماء في القنينات، بل أصبحت عمليات الحجز تتم قبل وصوله الأرض أصلا. وصارت وحدة القياس في تجارة الماء هي السحب وليس اللتر ، وكل سيشتري في القريب العاجل سحبا بحجم حاجته وعلى قدر إمكانياته.
سيقول البعض إن الأمر مبالغ فيه أو غير منطقي، لكن الحقيقة هي أن الفلاحين الكبار الأمريكيين أو الصينيين لم يعودوا يحملون هم المطر، لا من حيث الكمية ولا من حيث التوقيت. ففي الولايات المتحدة كما في الصين، هناك شركات وإدارة خاصة بالمطر. إدارات لا تتقاضى المليارات من أجل تدبير الرذاذ النازل من السماء لماماً، بل من أجل إنتاج هذا المطر حسب الحجوزات والكميات المتفق عليها من طرف الفلاحين الكبار طبعاً.
صحيح أن الأرض شهدت تغيرات مناخية كبيرة في العقود السابقة، ولم نعد نرى دورة الطبيعة التي كانت تؤثث طفولتنا، حين كانت السنة كالكتاب المفهرس ذو الأربعة فصول والأبواب المتعددة في كل فصل، وقد يكون صحيحا كذلك أن هذا الأمر مرتبط بما يسمى “الاحتباس الحراري” الناتج عن الاستهلاك المفرط والتصنيع المتوحش والاستغلال الهمجي لمقدرات الطبيعة، لكن ما ليس طبيعيا هو أن يتحول الاحتباس الحراري إلى تجارة مزدهرة ووسيلة للحكم.
إنها تجارة مربحة لأن الشركات الأمريكية والصينية صارت اليوم تعقد اتفاقيات بملايين الدولارات مع كبار الفلاحين، حول الكميات المطلوبة من الماء (المطر) وتوقيت نزولها، ولم يعد الفلاحون هناك يحملون هم السقي، حيث يزرعون ما يريدون أينما يريدون ومتى يريدون ثم يأتيهم المطر طبقا للعقد، كمية وتوقيتا، بما يجعلنا على أبواب بورصة للشتاء مثل بورصة الذهب، حيث سيتأرجح سعر غالون المطر حسب العرض والطلب، ولذلك وجب أن يعرف الناس أن زمن “إخوتي جاء المطر هيّا اجلسوا تحت الشجر، هيّا خذوا مني الزهر، هيّا كلوا هذا الثمر”، التي أنشدناها صغارا، قد ولّى وانتهى. وأن هذا الواقع الذي نصفه اليوم، سيصبح في القريب شيئا عاديا ومتعارفا عليه، وهو وسيلة للحكم لعدة أسباب:

  • أولا: سيصبح الأمن الغذائي للدول بيد الشركات الأمريكية والصينية، وسيصبح لهذه الشركات القدرة على تجويع الشعوب أو تزويدها بغذائها حسب درجة ولاء وخضوع تلك الدول، وسيصبح للحكومات المحلية مجرد دور ثانوي.
  • ثانيا: سيصير بمقدور الدول العظمى المحتضنة لهذه الشركات أن تتحكم في البعد الديمغرافي للعالم حسب أجنداتها السياسية والاقتصادية، وذلك من خلال التحكم في الأوبئة والأمراض من خلال تحكمها في قطرات الماء التي تصل كل بيت، أو من خلال افتعال الحروب والصراعات بين الدول على خلفية البحث عن موارد مائية.
  • ثالثا: سيظهر ما يمكن تسميته باقتصاد العطش، وذلك من خلال التحكم في نسب النمو الاقتصادي للبلدان حسب ما تحصل عليه من ماء، وما ستحصل عليه من ماء سيكون رهينا برضى الدول العظمى عليها.
    قد يقول عبقري أننا سنلجأ لتحلية مياه البحر للاستغناء عن تجارة السحب، والحقيقة أن مسألة تحلية مياه البحر ستخفف بالفعل، وأقول بالكاد ستخفف من أزمة العطش، لكنها لن تحل معضلة الزراعة والري والإنتاج الفلاحي والحيواني، وبالتالي نسبة النمو الاقتصادي والديمغرافي، لأن كميات المياه التي يمكن تحليتها أقل بكثير جداً من الكميات المطلوبة لفلاحة يفترض فيها إنتاج غذاء ملايين الأشخاص.
    لقد فقد حان الوقت لنعرف أن صلاة الاستسقاء سنّة يؤجر الناس على إحيائها، ولكن إحياء الأرض والحرث والنسل يتطلب أكثر من مجرد صلاة الاستسقاء، علما أن هذه السنّة صارت في الكثير من الدول الإسلامية مجرد وسيلة لتبييض السياسات الفاشلة والإلقاء بمسؤولية الأزمة على عاتق القدر، عوض محاسبة المسؤولين الحقيقيين عن تبذير الثروة المائية وتعطيل التطور العلمي والتكنولوجي بهذا الصدد.
    بل إن بعض الدول الإسلامية ابتدعت طرقا جديدة لتوظيف الدين في هذا الأمر، ذلك أنه حين يتساءل المواطن في وطننا الإسلامي عن السبب وراء هطول هذه الكميات الهائلة من الأمطار في بلدان هي في الواقع قاحلة وجافة مثل السعودية والإمارات ومصر، لا يقال لهم بأن هذه الدول تشتري في الحقيقة الأمطار لغرض التمويه السياسي والإيديولوجي، وإنما يتم “قصفهم” بالحديث النبوي عن أبي هريرة (وسأعفيكم هنا من العنعنة) والذي يقول فيه: “لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها، وحتى تعود (وهذا مربط الفرس) أرض العرب مروجاً وأنهاراً”.
    طبعا، تتغاضى الدعاية عن الجزء الأول من الحديث، والمتعلق بكثرة أموال الزكاة، وتؤكد على أن الأمطار التي تهطل على الرياض ودبي والقاهرة هي وعد رباني على لسان رسول الله، يبشر بقرب الساعة، وطبعا مع ما سيسبق ذلك من انتصار للمسلمين على أعدائهم، بينما هي في الحقيقة سحب تم اقتناؤها من “أعدائهم” أصلا .