story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

مدونة الأسرة .. ساحة حرب بين المحافظين والحداثيين

ص ص

مثلت مدونة الأسرة أو الأحوال الشخصية، خلال الثلاثة عقود الاخيرة، حيزا هاما في النقاش العام الدائر بالمغرب، وعنوانا للتباين والتدافع بين الإسلاميين المحافظين واليساريين الحداثيين، تتزايد حدته في سياق ‏مطالبة عديد الهيئات والمنظمات بمراجعة القوانين التي تنظم أحوال الأسرة بعد عقدين من ‏تجربة المدونة انسجاما مع روح دستور 2011 ومسايرة للتحولات التي يعيشها المجتمع.

الخلافات بين التيارين، كانت في أوجها في بداية سنة الألفين، عندما وصل الخلاف بينهما حول تعديل مدونة الأحوال الشخصية إلى مسيرات مليونية متزامنة، بين مؤيدين ومعارضين، كان فيها التدخل الملكي الفيصل بين المعسكرين، بما يضمن التوازن، بين الالتزامات الدولية للمغرب والرغبة في تطوير قوانينه المنظمة للاسرة والحياة الاجتماعية، والحفاظ على احترام مرجعيته الاسلامية.

السجال الثقافي والسياسي الحاد والتعبئة بين المعسكرين عادت للانتعاش قبل سنة، عندما دعا الملك محمد السادس في خطاب العرش يوم 30 ‏يوليوز 2022 إلى مراجعة القانون المنظم للأسرة، لتجاوز ما أسماها بالاختلالات والسلبيات التي أظهرتها ‏التجربة العملية لهذا القانون الذي تم تعديله آخر مرة عام 2004، ومن المنتظر أن تزداد حدته، مع إطلاق الملك رسميا أمس الاثنين لورش إصلاح مدونة الأسرة، بتوجيه رسالة لرئيس الحكومة بهذا الخصوص، وتحديده لأجل ستة أشهر من أجل تقديم التعديلات اللازمة.

من الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة 

مخاض طويل وعسري سارت فيه معركة قضية المرأة بين الجبهة الدينية المحافظة بمختلف مكوناتها والجبهة الحداثية، ترجع إلى الخلاف حول مدونة الأحوال الشخصية مطلع التسعينيات من القرن الماضي، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، حيث نشب خلاف حاد بين هيئات إسلامية وهيئات يسارية طالبت فيه الهيئات الثانية بتعديل أحكام المدونة والقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، خاصة في الولاية وسن الزواج والطلاق والإرث، ليتدخل الملك بصفته الدينية مصرا على أنه لن يحل ما حرم الله ولن يحرم ما أحل الله، ويعين لجنة علمية أدخلت بعض التعديلات عام 1993م وطوي الموضوع إلى حين.

الخلاف الأول لم يعمر طويلا بخلاف الجولة الثانية، والتي كانت انطلاقتها الرسمية يوم الجمعة 19 مارس 1999، عندما ألقى الوزير الأول الأسبق الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي قائد أول حكومة تناوب آنذاك، خطابا في فندق هيلتون بالرباط قدم فيه “خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية” أمام الرئيس العام المساعد للبنك الدولي ووفد غفير من الصحافيين، وذلك في الوقت الذي كان فيه حزب العدالة والتنمية، الحديث العهد بالبرلمان يطالب الحكومة بمنع مسابقة “ملكة جمال الرباط”، ويستعد لتنظيم وقفة احتجاجية أمام فندق هيلتون نفسه في شهر أبريل من العام نفسه.

هذه الخطة التي كانت من أبرز عناوين الصراع بين الاسلاميين واليساريين في العقود الأخيرة بالمغرب، كانت قد خرجت من كتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة، ومن تحت عباءة الوزير اليساري عن حزب التقدم والاشتراكية سعيد السعدي، إلا أن هذه الخطة ووجهت بمعارضة قوية وكبيرة حتى داخل الحكومة، قادها أولا وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق عبد الكبير المدغري، ورابطة علماء المغرب والعلماء خريجو دار الحديث الحسنية والهيئة الوطنية لعدول، بالإضافة إلى تيار الاسلاميين الذين سعوا إلى تحويلها إلى قضية رأي عام، بإطلاق حملة واسعة لجمع التوقيعات ضد المدونة واستقطاب شخصيات من خارج التيار الاسلامي للوقوف ضد الخطة.

وفي 12 مارس 2000، تجلت أبرز أوجه الصراع بين التيارين، عندما نظمت مسيرتان بكل من الدار البيضاء والرباط حول خطة إدماج المرأة في التنمية، ففي العاصمة الاقتصادية تجمع أكثر من مليونين من المناهضين لتلك الخطة في مسيرة حاشدة أثارت الانتباه الدولي، وفي الرباط تجمع المؤيدون للخطة، ليشكل عقب ذلك الملك محمد السادس “اللجنة الملكية الاستشارية لتعديل مدونة الأسرة” قادها ابتداء إدريس الضحاك، وتلاه بعد ذلك الأستاذ محمد بوستة.

ولم تهدأ المعركة نسبيا، بين العدالة والتنمية الذي كان يخوض معارضة شرسة في البرلمان، ومكونات الحكومة، إلا يوم نصب الملك محمد السادس “اللجنة الملكية الاستشارية لمراجعة مدونة الأسرة” في شهر شتنبر 2001، ويوم العاشر من شهر أكتوبر 2003  سكت الجميع بعد الخطاب الملكي الحاسم أمام البرلمان، حيث عرض ملك المغرب الخطوط الكبرى لمشروع المدونة الجديدة، داعيا أعضاء المؤسسة التشريعية إلى النظر والمداولة في الجوانب التنظيمية والشكلية دون الجوانب الشرعية التي حسمتها اللجنة المختصة ووافق عليها الملك بوصفه “أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين” كما ينص على ذلك الفصل التاسع عشر من دستور المملكة المغربية.

الخلاف سيمتد إلى المراجعة 

عاد الخلاف والتقاطب بين الاسلاميين والحداثيين للانتعاش خلال السنوات الأخيرة، بعد إصدار مؤسسات دستورية، مثل المجلس الوطني لحقوق الانسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لتقارير تقيم تجربة مدونة الأسرة، وتقف على اختلالاتها التي ظهرت في ما يقترب من العقدين من الممارسة، مع توصيات بالتعديل.

المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أوصى قبل سنة في تقرير له بإجراء مراجعة طموحة لمدونة الأسرة، كفيلة بحماية النساء وضمان حقوقهن، بعدما خلص إلى أن أن هذا النص التشريعي المعمول به حاليا لا يزال يتضمن أشكالا من التمييز على مستوى الولاية على الأطفال والزواج المبكر والأموال المكتسبة من لدن الزوجين خلال فترة الزواج وآجال الفصل في دعوى التطليق بسبب الشقاق، كما دعا المجلس الوطني لحقوق الإنسان في تقريره السنوي عن حالة حقوق الإنسان بالمغرب برسم سنة 2022 إلى مراجعة مدونة الأسرة، بما يكفل المساواة بين الجنسين داخل الأسرة وحماية السلامة الجسدية للأطفال بإلغاء الاستثناء الوارد في المادة 20 الذي يسمح بتزويج الأطفال.

دعوات المجلسين انضمت إليها أصوات الحقوقيين، إلا أن الاسلاميين وعلى الرغم من تأييدهم لضرورة تعديل المدونة، فإنهم ينبهون إلى ضرورة التشبث بالمرجعية الاسلامية واستحضارها في أي تعديل، وهو ما ترجمته الآراء التي عبر عنها منتدى الزهراء للمرأة المغربية الجناح النسوي للتيار الاسلامي، وحركة التوحيد والاصلاح وحزب العدالة والتنمية، في بلاغاتهم خلال السنة الأخيرة، ما ينذر بتجدد الخلاف وحالة التقاطب مع انطلاق ورش المراجعة بمبادرة ملكية.

في مارس الماضي المجلس الوطني لحقوق الإنسان وضع أول خطوة عملية في طريق تعديل المدونة، بإحداثه “مجموعة عمل حول مقترح مراجعة مدونة الأسرة”، وكانت كذلك محط انتقاد من الاسلاميين، حيث اتهم منتدى الزهراء للمرأة المغربية المجلس بتضمين المجموعة شخصيات يعتبر معظمها عن توجه فكري واحد، ومتهما إياه بممارسة الاقصاء ضد التيار الاسلامي.

تسرب داخل الاسلاميين 

على الرغم من التاريخ الحافل بالصراعات، فقد عرف التيار الاسلامي في المغرب خلال السنوات الأخيرة تيار أكثر ليونة وقبولا لإدخال تغييرات على مدونة الأسرة، تتوافق مع ما يطالب به الحداثيون، يقبل ما كان مرفوضا إلى وقت قريب، وهو ما ترجمته الحملة الترافعية التي كانت قد أطلقتها الوزيرة الراحلة سمية بنخلدون، أثناء قيادتها لمنتدى الزهراء للمرأة المغربية، والذي يعتبر الجناح النسوي للحركة الاسلامية، وهي حملة ترمي إلى تقديم ملتمس تشريعي إلى البرلمان قصد تعديل المادة 49 من مدونة الأسرة، وكذا المواد المرتبطة بها، من أجل رفع “الظلم” الذي يلحق النساء المغربيات جراء تعطل تفعيل الاتفاق على تدبير الأموال المكتسبة أثناء قيام الزوجية.

وتنص المادة 49 من مدونة الأسرة على أن “لكل واحد من الزوجين ذمة مالية مستقلة عن ذمة الآخر، غير أنه يجوز لهما في إطار تدبير الأموال التي ستُكتسب أثناء قيام الزوجية الاتفاق على استثمارها وتوزيعها”. ويُضمّن الاتفاق، وفق ما هو منصوص عليه في المادة المذكورة، في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج.

وطمح منتدى الزهراء للمرأة المغربية إلى إقناع المشرع المغربي، عبر الملتمس التشريعي، بإقرار إلزامية الاتفاق على تدبير الأموال التي ستُكتسب أثناء قيام الزوجية، بعدما ثبت أن جعله مسألة اختيارية لم يُفض إلى تحقيق الغاية المتوخاة من المادة 49 من مدونة الأسرة.

واختار منتدى الزهراء لمشروعه الترافعي من أجل تعديل المادة 49 من مدونة الأسرة، الذي أعدته لجنة علمية من خبراء وباحثين، شعار: “اللي شْركناه بالفضل نتاقسموه بالعدل”. ويتمثل الهدف العام للمشروع في إدراج تعديل المادة المذكورة في الأجندة السياسية لضمان حقوق المرأة في تدبير الأموال المكتسبة خلال فترة الزواج.

الإرث .. “البند المقدس” في المدونة 

ولا يكاد يهدأ الصراع بين من يوصفون بـ”المحافظين” و”الحداثيين” في المغرب بشأن قضية أو حادثة، حتى يتجدد في أخرى، وسط توقع بأن تكون أرض “المساواة في الإرث” مسرحا لصراعاتهما المقبلة مع انطلاق ورش تعديل مدونة الأسرة.

عبد الإله بنكيران، أمين عام حزب العدالة والتنمية، كان قد استبق الاعلان عن تعديل المدونة بالتصدي لأصوات التي تعالت للمطالبة بهذه الخطوة من باب تغيير المقتضيات الخاصة بالارث بإقرار مساواة فيه بين الجنسين، واتهم “جهات خارجية” بالوقوف وراء هذه المطالب.

وقال بنكيران، رئيس الحكومة الأسبق، في بث مباشر عبر حسابه في فيسبوك قبل أشهر إن “جهات خارجية تشتغل على موضوع المطالبة بالمناصفة في الميراث”، وتابع: “هذه الجهات  لها فلسفة تسير في اتجاه أنه ليس هناك رجل وامرأة، وإنما هناك الكائن البشري الذي يجب التعامل معه بنفس الطريقة في كل شيء”، واعتبر أن “هذا فساد في الرأي وظلم كبير للمرأة وللرجل، وللمرأة أكثر”، محذرا من “خطر يهدد المغرب، وجرأة غير مسبوقة وتحد صارخ للآيات القرآنية القطعية الدلالة، المتعلقة بالإرث”.

وأعرب بنكيران عن استعداد حزبه لمناقشة بنود مدونة الأسرة لرفع الضرر عن المرأة أو الطفل أو الرجل، دون المس بالأحكام القطعية للشريعة الإسلامية، لأن المدونة ليست نصا مقدسا حسب قوله، لكنها تحتوي بنودا مقدسة يجب عدم الاقتراب منها، داعيا إلى “إطفاء نار الفتنة والإعراض عن دعوات المناصفة في الميراث”.

التدخل الملكي 

طي صفحة الخلاف الأول حول مدونة الأحوال الشخصية ثم مدونة الأسرة كان بتدخل ملكي، والخلاف هذه المرة كذلك سيكون بنفس الطريقة.

الملك محمد السادس كان قد أشار في خطاب العرش للعام الماضي على الدخول في ورش تعديل مدونة الأسرة في صيغتها الحالية بعد 18 سنة على العمل بها، ما أدخل الفاعلين السياسيين، ووالنشطاء في مجال حقوق الانسان، والفاعلات في الحركة النسائية، جميعا، في اختبار النقاش الفكري والمجتمعي حول طبيعة هذه التعديلات، والاجابة على سؤال المرجعية المؤطرة لهذه التعديلات والمتعلقة بـ”الفقه الاسلامي”، على غرار اللحظات التاريخية التي سبق وأن عاشها المغرب مع “خطة إدماج المرأة في التنمية” وما ترتب عنها من انقسام حاد بين معسكرين واحد مؤيد والأخر معارض، وصل مداه النزول إلى الشارع.

الملك في خطابه قبل سنة أقر بأن المدونة بشكلها الحالي أصبحت غير كافية، بسبب عوائق تحول دون تحقيق أهدافها، ومن بينها عدم تطبيقها الصحيح، داعيا إلى تجاوز الاختلالات والسلبيات، التي أبانت عنها التجربة، ومراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها، إذا اقتضى الحال ذلك، حاملا طمأنة إلى التيار الاسلامي، بتأكيده على أنه لن يحل ما حرمه الله لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.

الخطوة الملكية الثانية في هذا الاتجاه، جاءت أمس بتوجيه دعوة مباشرة للحكومة، بإعادة النظر في مدونة الأسرة، وتحديد أجل ورفع التوصيات إليه في ستة أشهر، بالإضافة إلى تحديد الجهات التي يسند إليها الإشراف العلمي على هذا الإصلاح وهي وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وبغشراك المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين.