story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

محمد جليد: الأدب الأفريقي ولبوس الكولونيالية الجديدة

ص ص

من كان يتحدث عن الأدب الأفريقي، قبل بضع سنوات، داخل الفضاءات الثقافية المغربية المختلفة؟ عندما ينظر المرء مليا في هذا السؤال، محاولا تقديم إجابة شاملة عنه، سيجد أن الاهتمام بآداب القارة الأفريقية يكاد يكون محصورا على كتاب معدودين على رؤوس الأصابع، في مقدمتهم الكاتب والناقد المرحوم بنعيسى بوحمالة الذي قدم دراسات في غاية الأهمية والعمق حول نصوص أفريقية متعددة وأدباء أفارقة كثر. كما سيجد أن تدريسه مقتصر على كليات الآداب، خاصة في شعبتي الآداب الإنجليزية والفرنسية. أما شعبة الأدب العربي، فلا تقدم منه للطلبة سوى نتف من النصوص المكتوبة باللغة العربية، ومنها الأدب السوداني على وجه الخصوص.
لكن هذا الاهتمام سيتوسع خلال السنوات الأخيرة بصورة مذهلة؛ أي بعد استعادة المغرب مقعده داخل الاتحاد الأفريقي. هكذا، يبدو هذا الاهتمام المتزايد اليوم بالأدب الأفريقي في الآونة الأخيرة مسألة سياسية. وبخلاف الاهتمامات السابقة النابعة من رغبة موضوعية في التعرف على هذا الأدب والتعريف به، لا يظهر أن الاهتمامات الراهنة هي نتاج رغبة مماثلة. فإذا نظرت إلى الاهتمامات السابقة على قلّتها، ستجد أنها مشاريع ذاتية فردية، لا دخل فيها للمؤسسة- كيفما كان نوعها- وأن نتاجاتها موضوعية لا تحتكم لمنطلقات أو تأثيرات أو توجيهات سياسية رسمية أو خارجية أو غير ذلك. والدليل على ذلك أنها لم تستفد من الأموال الطائلة التي تتهاطل اليوم كالمطر على أصحاب الاهتمامات الراهنة.
آتي الآن إلى صلب الموضوع؛ أي الحافز على كتابة هذه المقالة. في نهاية الأسبوع الماضي، شهد أحد أكبر فنادق مدينة مراكش إقامة مهرجان للكتاب الأفريقي (أقول مهرجانا، وليس معرضا أو مؤتمرا أو حتى لقاء). ينعقد هذا ‘المهرجان’ للمرة الثانية (بالمناسبة، لا تخلو حوارات المندوب العام للمهرجان من إشارات ترقى إلى تأكيدات على المنطلق السياسي للاهتمامات الراهنة بالأدب الأفريقي اليوم). وللمرة الثانية، تتبدى ملاحظات أساسية في اهتمامات هذا ‘المهرجان’ وأصحابه: أولا، غلبة المكون الفرنكفوني على التنظيم والمشاركة والعروض؛ ثانيا، غياب أبرز الكتاب المغاربة والمغاربيين والأفارقة العرب الذين يكتبون باللغة العربية؛ ثالثا، غياب أبرز الكتاب الأفارقة الذين يقتصرون في تأليفاتهم على لغاتهم المحلية ولا يكتبون بلغات الكولونيالية القديمة؛ رابعا، انحصار أنشطته داخل صالونات الفنادق، وإن ادعى أصحابه عكس ذلك.
لا يكمن جوهر هذا النشاط وغيره من الأنشطة المماثلة فحسب في البعد السياسي الذي وصفته آنفا؛ أي بما هو انعكاس من الانعكاسات السياسية لعودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي. في نظري، ثمة أيضا أبعاد كامنة خلف ما يظهر لنا من خلال النوايا المعلنة والتصريحات والحوارات الصحافية، الخ. هناك مشاريع خفية تسيرها الإمبرياليات السابقة من خلف مرايا عاكسة تحجب عنها حقيقة الأمر، تلك التي يسميها الكاتب الكيني ‘نغوغي واثيونغو’ بـ’كولونيالية العقل’. فهذه ‘المهرجانات’، التي تقام في كثير من البلدان الأفريقية تحت شعار الاهتمام بالأدب الأفريقي، تعدها السفارات والمراكز الثقافية التابعة للدول الكولونيالية القديمة، وتلبسها لبوسا براقا حتى لا تظهر مقاصدها وأبعادها الحقيقية. ومن ينكر هذا عليه أن يعود إلى دراسة أعدها ‘جاك أطالي’- بطلب من الحكومة الفرنسية في عهد الرئيس السابق ‘فرنسوا أولاند’- كانت الغاية منه إيجاد السبل الكفيلة بانتشار اللغة الفرنسية؛ ومن ثمة، توسيع دوائر الاقتصاد الفرنسي؛ أي إيجاد طريقة جديدة لـ’إعادة انتشار’ الإمبريالية الفرنسية اليوم.
لا تتجلى الغاية هنا من إثارة هذا الموضوع انتقاد منظمي ‘مهرجان’ الكتاب الأفريقي في مراكش. لا، ذاك شأنهم، وهم أحرار فيه، بما أنهم مقتنعون بما يفعلون. الغاية أسمى وأجل من ذلك، إذ ما فتئ الكتاب والنقاد الأفارقة منذ ستينيات القرن الماضي يلفتون الانتباه إلى أن الدارسين الغربيين والمتأثرين بمناهجهم والسائرين على دربهم من أبناء أفريقيا يقدمون أبحاثا ودراسات تحور مضامين الأدب الأفريقي، ولا تنفذ إلى جوهر تعبيراته وكنه أبعاده ومقومات جمالياته، الخ. والحال أن الاهتمام بهذا الأدب ينبغي أن يجيد الإصغاء إلى نصوصه وتعبيراته وجغرافياته وتواريخه، الخ. هنا بالضبط تكمن خطورة هذه الاهتمامات الآتية من شمال ضفة البحر الأبيض المتوسط.