story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

محامون بلا دفاع!

ص ص

هذا ما كان ينقص المغاربة: على بعد أيام من العطلة القضائية، والتي تعني من بين ما تعنيه، إرجاء الجلسات وتأخر الأحكام، ها هم أصحاب البذلة السوداء (المحامون) يعلنون إضرابا لمدة ثلاثة أيام.
والسبب؟ جلسة تشريعية تنعقد صباح اليوم الثلاثاء 23 يوليوز 2024 في مجلس النواب، للمصادقة على مشروع قانون المسطرة المدنية.
المشروع ليس جديدا، لكن ما حدث يوم الجمعة الماضي، من اجتماع مارطوني للجنة العدل والتشريع، انتهى بالمصادقة على المشروع والحسم في أكثر من ألف تعديل، أدى إلى فزع في صفوف محترفي هذه المهنة.
السياق العام الذي يحيط بهذه المعركة الجديدة لا يسمح بالاطمئنان مهما كان نص المشروع جيدا ومتطورا.
المحاكم أصلا في شلل شبه دائم بسبب إضرابات موظفي كتابة الضبط. والمستشفيات العمومية في اضطراب هذه الأيام بفعل معركة اجتماعية قطاعية، وكليات الطب والصيدلة في كارثة حقيقية بعد نهاية السنة الجامعية دون دراسة ولا تدريب ولا امتحانات. و”الدولة الاجتماعية” آخذة في تجريب “الحسانة بلا ما” في ريوس “ليتاما” من فقراء المغرب.
بالأمس فقط كشفت الحكومة عن مشروع مرسوم جديد، يحرم ملايين الأطفال من المحفظة التي كانوا يحصلون عليها مجانا كل دخول مدرسي.
الحكومة تعتزم تعويض هذا الدعم العيني بآخر مالي يتمثل في 200 درهم تصرف شهر شتنبر لفائدة الأسرة التي تحصل على الدعم الاجتماعي المباشر ولديها طفل في المدرسة الابتدائية أو الإعدادية، و300 درهم في حال كان الطفل في المستوى الثانوي.
لنتخيّل فقط منظر أب أو أم يعاني أو تعاني العوز، وفي جيبه 200 درهم ويريد شراء الكتب والدفاتر والأدوات الأساسية لابنه.. هل سيشتري المحفظة أم جزءا من الكتب المطبوعة أم يكتفي بالدفاتر وبعض الأقلام؟
تقنية “الحسانة بلا ما” التي تطبّقها هذه الحكومة في “ريوس” المغاربة يمكن أن نتخيّلها في شكل الحالة التالية: أرملة مغربية كانت إلى وقت قريب تحصل على دعم مالي مباشر من صندوق دعم الأرامل، قد يصل إلى ألف درهم إذا كان لديها ثلاثة أطفال (أيتام)، وتتمتع بالتغطية الصحية المجانية عبر “راميد”، وتحصل لأبنائها على محفظة مدرسية كل دخول مدرسي، وتستفيد من دعم تيسير الخاص بدعم تمدرس الأطفال…
هذه السيدة بات اليوم مطالبة بدفع مساهمة انخراطها في التغطية الصحية إن ثبت عليها أي نشاط مدرّ للدخل، والاكتفاء بدعم شهري قد لا يتجاوز 500 درهم، مع تدبّر أمر الدخول المدرسي مقابل 200 و300 درهم في شتنبر المقبل.
هذا هو السياق الذي تنفجر فيه معركة المحامين الجديدة، والذي يجعل أي خطاب وإن كان معقولا أو منطقيا، عاجزا عن الإقناع. النية ثابتة لدى هذه الحكومة في تركيع المجتمع وتكميم ما تبقى لديه من أفواه تنطق بالمطالب الحقوقية، في السياسة والاقتصاد والمجتمع.
المحاماة مهنة منهكة اليوم. بل مثخنة بجراح وكدمات توالت عليها في السنوات الأخيرة. من معركة الضرائب، إلى فضيحة المباراة التي أقرّت الدولة بفسادها ومنحت المتضررين فرصة اجتيازها من جديد دون أن ترتّب أثرا على الفساد الأول ولا المستفيدين منه.
المحاماة مهنة مستهدفة في أدوارها ووظائفها الفوق-مهنية. المحامون هم العمود الفقري للجسم الحقوقي والسياسي، وحليف موضوعي للجسم الإعلامي. لهذا يحق للمراقب أن يشكّ في تسلّل بنود الاستهداف لما تبقى من هذه المهنة بين سطور مشروع المسطرة المدنية الجديد.
حضرت مساء أمس ندوة جمعية هيئات المحامين في المغرب. ويمكنني أن أعيب على السادة المحامين اختيارهم التفاوض السري، ثم خروجهم مستغيثين حين صادقت لجنة العدل والتشريع يوم الجمعة الماضي على المشروع دون أخذ ملاحظاتهم بعين الاعتبار.
كما يمكنني أن أعيب عليهم عدم وضوح مؤاخذاتهم على المشروع واكتفاءهم بخطاب يستهدف “الدولة العميقة” بدفع تهمة التمرّد وتجاهل المصالح العليا، أكثر من استهدافهم المجتمع بخطاب مباشر وواضح حول مكامن الخطورة في المشروع…
يمكننا تدبيج الكثير من المؤاخذات.
لكنني أبصم على مخاوف المحامين من انتهاك قانون المسطرة المدنية المقبل للدستور. انتهاك يتجلى في الحرمان من الولوج إلى الدرجات العليا من التقاضي، أي الاستئناف والنقض، بدعوى تعلّق الدعوى بدين هزيل، لا يتجاوز ثلاث أو أربعة ملايين سنتيم.
هل يدرك السادة المشرّعون معنى ثلاثة ملايين سنتيم عند تلك الأرملة التي ستمنحها خزينة الدولة 200 درهم لشراء محفظة لابنها اليتيم؟ هل يعرفون أنها تساوي ثلاثة ملايير مما يعدّ الوزراء والبرلمانيون؟
من حق محترفي المحاماة الدفاع عن مصالح مهنة تقوم بأكثر من دور ووظيفة في مجتمع الحقوق والحريات الذي نزعم السعي إليه.
من حقهم الدفاع عن مصالح مهنة نرى بالعين المجرّدة كيف تساق نحو المسلخ وتنتزع أنيابها وتقلّم أظافرها، لأن منها تخرج أصوات تأطير المجتمع بالمعرفة القانونية والحقوقية. حتى صارت مهنة دفاع بلا دفاع ذاتي.
ومن حقنا أن نخاف أكثر على الدستور، في ظل الهروب المفضوح الذي تقوم به الدولة من مقتضى دستوري صريح نصّ على حقنا جميعا كمغاربة، في الطعن بعدم دستورية القوانين. من حقّنا أن نخاف على حقوقنا الدستورية التي تحققت لنا بفضل سياق مختلف كليا عن سياق “الحسانة بلا ما” الذي نعيشه حاليا.
وإلا لماذا لم تجد مؤسسات الدولة ما يحملها على إصدار القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، بالسرعة نفسها التي يجري بها اليوم التصديق على مشروع قانون المسطرة المدنية.
لا أحد منا، سواء كان محاميا أو “طالب معاشو”، يستطيع اليوم التحقق من دستورية أي نص قانوني يصدر عن الحكومة الحالية وأغلبيتها الطيّعة التي قدّمت مجتمعة أقل من 240 تعديل على مشروع قانون المسطرة المدنية، مقابل قرابة 900 تعديل قدّمته فرق المعارضة الصغيرة والمتفرقة.
ولا نملك أمام مشهد حلق رؤوس المحامين “بلا ما”، إلا أن نردد مع إميل زولا: إني أتهم!