story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

مجتمع الريع

ص ص

عندما كتبت مقالتَيَّ السابقتين “مجتمع الخوف” و”مجتمع الصقيع”، لم أكن أنوي أن أستمر في سلسلة مقالات ترصد أعطابنا الجماعية التي تنخر بنيتنا المجتمعية، وتُعطِّل تحولنا إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي تسود فيه قيم العدالة والحق، وبصفة خاصة قيمة الاستحقاق. استهواني التمرين، واستولت علي فكرة تقاسم ما أرصده وخلاصة قراءة مشاهد تتكرر يوميا أمام الجميع، ونحتاج لبوح جماعي بخصوصها، وفضح الصمت المتواطئ الذي نختزنه جميعا، والذي تحول إلى توافق واستمراء…

إليكم المشهد التالي: بجانب ميناء الصيد في إحدى مدن الساحل الممتد على طول أكثر من 3500 كلم، وعند أضواء إشارة المرور، تقف بجانب سيارات المواطنين شاحنة محملة بالرمال، وأخرى لنقل الأسماك، وسيارة أجرة من الحجم الكبير، وحافلة لنقل الركاب بين المدن في انتظار الإشارة الخضراء. هذا مشهد بسيط يمر أمام أعين المواطنين البسطاء والمثقفين والأُميِّين والاقتصاديين والسياسيين والعمال والفلاحين وغيرهم، دونما أن يحرك في مادتهم الرمادية حس التفكير والتحليل إلا لُماما، عند من ابْتُلُوا بحاسة النقد في هذا الوطن. ما الغريب في هذه الصورة العادية؟ لا شيء يثير الاستعجاب أو الاستهجان.

في حقيقة الأمر، يلخص هذا المشهد أحد أعمق المشاكل الهيكلية التي ترهن اقتصادنا، وتجر بنيتنا الاجتماعية والسياسية إلى عمق القرون الوسطى رغم انتشار مظاهر الحداثة والتطور والانفتاح على العالم. إن استقراء الصورة والتدقيق فيها يحمل معاناة خالقي الثروة الحقيقيين ونيلهم الفتات منها. فسائق سيارة الأجرة الذي اسْمَّرَ ذراعه الأيسر أكثر من الأيمن، والذي يضع نظارات شمسية رخيصة لعلها تقيه أشعة الشمس المائلة، هو من يصطف مع زملائه منتظرا دوره، ثم ينهب الأرض نهبا في صراع أبدي مع الوقت والمنافسين وحملات الشرطة وأمزجة الركاب والحفر التي تُرَصِّعُ طرقنا، من أجل الحصول على مدخول يومي يقتسمه مع صاحب السيارة الذي قد نتفهم استثماره برأسماله المادي، وصاحب المأذونية المرتاح من أي جهد بدني أو فكري، والذي ينال نصيبه دونما تدخل في دورة الإنتاج سوى برخصة لا تساوي قيمتها قيمة الورقة الكرطونية المطبوعة عليها.

ينهي هذا السائق في كثير من الأحيان دوامَه منتظرا قطعة من سيارته المرهونة لنباهة الميكانيكي، وسوق أجزاء السارات المستعملة الممتد فوق أرض عمومية توسع مجالات الريع والاقتصاد المقنع.

بنفس المنطق، يتبادل سائق الشاحنة الكلام مع مساعده، ويغادران نحو أقرب شاطئ يجمعون منه أطنانا من الرمال، والتي يملك حصرية استغلالها شخص من نفس طينة المستفيد من مأذونية سيارة الأجرة، لكنه يعلوه درجة في تراتبية الريع المقيتة.
يشتغل عمال كثيرون في عملية الحفر وتحميل الشاحنات، ولا ينالهم في نهاية يومهم المضني سوى بضع عشرات من الدراهم وحبيبات الرمل المتداخلة مع كل أجزاء أجسامهم وثنايا ملابسهم الرثة.

أعلى من النموذجين اللذين سبق ذكرهما، نجد صاحب رخصة النقل بين المدن الذي ينال حلاوة الكراء الأولي ويحصل على مدخول شهري يعادل مدخول إطار عال بعد سنوات طويلة من الدراسة العليا والخبرة المهنية الطويلة، وصاحب رخصة الصيد في أعالي البحار الذي يفرغ شحنات صيده مرات متعددة عند زبناء السوق السوداء في المياه الزرقاء. المستفيدون مقامات، والتراتبية محفوظة، والكل مستفيد.

لا يقتصر الوضع الريعي في الاقتصاد المغربي على الفئة المستفيدة، بل هو مشروع حالم لمجتمع يؤمن بأهمية اختصار المسافات وتحين الفرص للانفراد بجزء من الكعكة.

لقد خضت تحديا مع مجموعات من الشباب المقبل على اقتحام معترك النشاط الاقتصادي إنتاجا، واستمر هذا التمرين طيلة عقد من الزمن بطرح نفس السؤال: إذا سمحت لكم الظروف بالحصول على مأذونية ما، هل تقبلون هذا الريع أم تفضلون إلغاء النظام الريعي والتحول إلى نظام اقتصادي حر مبني على تكافؤ الفرص وثقافة الاستحقاق؟ على مر هذه السنين، وبشبه إجماع حقيقي وغير صوري، ظل الجواب محبطا، ويكشف لنا أننا كنا ومازلنا وسنظل مجتمع الريع.