story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

متلازمة طوكيو

ص ص

الجميع يعرف طبعا متلازمة ستوكهولم، أي تلك العلاقة التي تنشأ بين الخاطف والمخطوف إذا طالت مدة الاختطاف حيث تتسبب طول معاشرة بعضهما البعض في نسج علاقة ود بينهما، فيصبحان صديقين من نوع خاص، بما يؤدي في النهاية إلى علاقة شبه عاطفية، وتعاون بينهما… لكن لا أحد يعرف متلازمة طوكيو… وهذا أمر طبيعي، لأنني أول من سيتكلم عنها .

صحيح أن الخير والشر مفهومان نسبيان، يراهما كل من زاويته، لكن أيضا من خلال زمن تناولهما. فبالأمس فقط كان الانتماء للنازية مصدر فخر واعتزاز، أما اليوم فقد صار عارًا، وكذلك الأمر بالنسبة للعديد من الأشياء والأحداث والمفاهيم.

حين كانت النازية مصدر فخر في ألمانيا، وراحت تعيث خرابا في أوروبا، كان اليابانيون يعيثون فسادًا في آسيا بشكل عام وفي الصين بشكل خاص. وكانت كل الدول المجاورة لطوكيو تعاني لعنة هذا الجوار. وكان جنود الإمبراطور الياباني يقتلون ويغتصبون وينهبون ويحرقون، وخير مثال على ذلك، لكنه ليس الوحيد، هو ما يعرف تاريخيا بمجزرة “نانكين” التي حدثت سنة 1937، وبالضبط ابتداء من يوم الثالث عشر من ديسمبر من تلك السنة، حينها كانت نانكين عاصمة لجمهورية الصين تحت حكم تشانغ كاي تشيك، وقد لجأ كل الصينيين، جنودًا ومدنيين، الهاربين من الغزو الياباني إلى تلك المدينة…

حدثت تلك المجزرة أمام أعين العالم، على اعتبار أن كل السفارات الأجنبية كانت آنذاك في نانكين، وجل مراسلي وسائل الإعلام الدولية حينها كانوا هناك، بمن فيهم الجرائد النازية نفسها، والمتحالفة وقتها مع اليابانيين، والتي لم تتردد في إدانة بشاعة تلك المجزرة التي قام الجيش الياباني خلالها بخرق كل القوانين والأعراف الدولية، وكل اتفاقيات الحرب والسلم المعروفة والمتعارف عليها…

آلاف الجنود الصينيين الأسرى الذين يفرض القانون الدولي معاملتهم كأسرى حرب، تم إعدامهم بدم بارد بجوار بحيرة يانغ تسي، حتى أن الجرائد الدولية تكلمت عن أن علوّ ركام الجثث على ضفاف البحيرة وصل عدة أمتار… تم قتل النساء والأطفال والرضع، بما في ذلك داخل المنطقة الآمنة التي كانت تحت تدبير الصليب الأحمر…

ومن أبشع الجرائم التي تقشعر لها الأبدان، قيام الجيش الياباني بفصل الرضع عن أمهاتهم، وذويهم والقيام بتحطيم رؤوسهم وجماجمهم، وتم حرق المدينة عن آخرها… كما تم قتل ما يناهز ثلاثمائة ألف مواطن صيني… وأطلق اليابانيون على الصينيين حينها وصف “بوتا” باليابانية، أي الخنازير. وبالتالي اعتبروا أنه يجوز لهم نحرهم دون تأنيب ضمير.

وكان شعار الجيش الياباني يعرف ب “صان كو”، أي “تدمير كل شيء، قتل كل شيء حرق كل شيء”… وبعد بضع سنوات، قام الجيش الياباني بحرق جل الوثائق المتعلقة بالمذبحة، حين أيقن من وصول الحلفاء سنة 1945…

انتهت بعد ذلك الحرب، وانهزمت اليابان شر هزيمة، وتم فتح محاكمات تتعلق بجرائم اليابان، فتم تحميل المسؤولية كاملة للجنرال إيواني ماتسوي وإعدامه في طوكيو سنة 1949… ويعرف الجميع أن الجنرال ماتسوي إنما كان كبش فداء أعدم نيابة عن الأمير ياسوهيرو أساكا، أخ الإمبراطور، والذي كان وقتها قائدا للقوات اليابانية، بتكليف طبعا من أخيه.

وتشير الوثائق المتعلقة بتلك المرحلة إلى أن مجريات المحاكمة وقرار تحميل الجنرال ماتسوي للمسؤولية كاملة، حدث بتواطؤ ونصيحة أمريكية، لأن اليابان المنهزمة حينها كانت تحت سطوة ووصاية الجنرال الأمريكي ماكارثر الذي أراد الحفاظ على المؤسسة الإمبراطورية اليابانية باعتبارها الموقعة على الاستسلام بعدما قام الأمريكيون بإبادة جزء من اليابانيين وتشويه جزء آخر، في واحدة من أبشع جرائم الحرب التي عرفها التاريخ، والمتمثلة في القصف النووي لمدينتي هيروشيما وناجازاكي…

هنا بالضبط تبدأ المتلازمة… متلازمة طوكيو… حيث من جهة أباد الأمريكان اليابانيين، ومن جهة أخرى أباد اليابانيون الصينيين… ومتلازمة طوكيو هي حين تتحالف الضحية مع جلادها ضد ضحيتها في علاقة نفسية معقدة قوامها تفضيل الذل على العار… أو حين يتم تحويل الهزيمة إلى إيديولوجيا وعقيدة وأساس للعلاقة…

فالوضع الطبيعي كان يفترض أن تقوم اليابان من جهة بالاعتذار للصينيين وتعويضهم على ما تسببت لهم فيه من مآس، وما اقترفته من جرائم، وإن كان لا شيء يمكن أن يمحو أو يعوض العار الذي اقترفه الجيش الياباني هناك، وأن تفتح صفحة جديدة من التعاون وحسن الجوار. ومن جهة أخرى، كان المنطق يفرض أن تقوم طوكيو بالوقوف في وجه الأمريكيين ومواجهتهم وتحميلهم مسؤولية ما اقترفوه من جرائم حرب ضد المدنيين اليابانيين العزل.

فما الذي فعلته اليابان؟

لقد فعلت عكس ذلك تماما، حيث فضلت أن تصبح حليفا للجلاد وعدوا للضحية… في موقف نفسي سوريالي غير مفهوم… دخلت في اتفاقيات تحالف مع الولايات المتحدة ابتداء منذ بداية الخمسينيات، ولازالت تتقارب معها كل يوم أكثر حتى يومنا هذا. ودخلت في عداء وتآمر تاريخي غير مبرر ضد الصين، وتشارك كل يوم في ما يساعد على محاصرتها والإضرار بها والتدخل في شؤونها إلى يوم الناس هذا، رغم الجوار…

متلازمة طوكيو هي حالة نفسية تنتج عن اجتماع شعورين: شعور المعني بعدم القدرة على النظر في عيني جلاده بسبب الرعب، وشعوره بعدم الاستعداد للنظر في عيني ضحيته بسبب العار وعدم القدرة على الاعتراف بالذنب…

متلازمة طوكيو حالة نفسية تحدث داخل المنظومات السياسية المبنية على الادعاء الأخلاقي كما كانت تعيشه اليابان، حين تنكشف طبيعتها الإجرامية الحقيقية وغير الأخلاقية، فلا هي تستطيع تبرير أفعالها الإجرامية أخلاقيا فتهرب إلى الأمام وترفض مواجهة مسؤولياتها كما حدث لليابان مع الصين، ولا الادعاء الأخلاقي الذي كانت تبني عليه سطوتها يسعفها في الاستمرار في جبروتها في مواجهة من هزمها وأذلها وجعل ادعاءاتها الأخلاقية فارغة المحتوى كما حدث لليابان مع واشنطن…

متلازمة طوكيو عاهة نفسية مدمرة تتناقض مع بناء حضارة حقيقية وتتسبب للأفراد كما للجماعات في سكيزوفرينيا حضارية وازدواجية في الهوية…

اليابان اليوم لا هي دولة آسيوية بحق ولا هي دولة غربية بحق… إنها مجرد شركة تضفي على نفسها بعض الطقوس والمظاهر الثقافية، لكنها تعرف يقينا أن حجمها الاقتصادي والسياسي والثقافي يحدده غيرها وليس ذويها…

متلازمة طوكيو تعيشها ألمانيا أيضا في علاقتها بين الروس الذين حاصرتهم واعتدت عليهم، والحلفاء الذين حاصروها ودمروها، وها هي اليوم بايعت المعتدي وتنكرت للضحية…

متلازمة طوكيو ردة فعل مرضية تحتاج لعدة قرون لتجاوزها…

متلازمة طوكيو تعيشها العديد من البلدان عبر العالم بمستويات متفاوتة ….