story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
إعلام |

“لوموند”.. بين شعار الاستقلالية وواقع البراغماتية والنظرة النمطية للمغرب

ص ص

عاد اسم صحيفة “لوموند” الفرنسية في الأيام القليلة الماضية (أواخر غشت 2025) ليتصدّر واجهة النقاش العمومي في المغرب.

مقالاتها التي تناولت المؤسسة الملكية، وأشارت إلى غيابات الملك محمد السادس وحضوره، فجّرت جدلا واسعًا حول حدود النقد المشروع، وخطوط الصحافة الدولية حين تتناول رأس الدولة في بلد مثل المغرب.

فمن جهة، اعتبرها البعض تعبيرا عن انزلاق في المهنية وتغذية لصورة نمطية تُقلّل من شأن المغرب. ومن جهة ثانية، رأى آخرون أنها جزء من تقليدٍ فرنسي راسخ في مساءلة السلطة، لا يعفي المغرب من أن يكون موضوعا للصحافة الدولية مثل غيره.

هذا السجال المغربي حول “لوموند” ليس معزولا عن تاريخٍ أطول. فالصحيفة التي تأسست في خريف 1944 من ركام باريس المحررة، لم تكفّ عن لعب دور “المرآة النقدية” للسلطة في فرنسا وخارجها.

ومع المغرب بالذات، كانت لهذه الصحيفة محطات متوترة: من مقالاتها حول الحسن الثاني وما أعقبها من دعاوى قضائية في التسعينيات، وصولا إلى ملفات حديثة مثل “بيغاسوس” ثم سلسلة المقالات الراهنة.

كيف وُلدت هذه الصحيفة الفرنسية؟ ما هي هويتها التحريرية؟ كيف حافظت على موقعها كـ”جريدة مرجعية” وسط عالم يتغيّر؟ وكيف بنت، وخسرت، ثم أعادت بناء سمعتها في فرنسا وخارجها؟

ثم، وهذا هو الأهم: كيف تشكّل وعيها المهني والسياسي وهي تكتب عن المغرب، وتكتب عن نفسها في مرآة المغرب؟

جريدة مسائية في فجر الاستقلال

إذا أردت أن تفهم فرنسا وهي تنظر إلى نفسها والعالم، فاقرأ “لوموند”. ليس لأنها “معصومة” أو خالية من عطب الصحافة، بل لأنها، منذ أن خرجت من ركام باريس المحرَّرة، تصرّ على أن تكون مرآةً تُناقِص السلطة وتشاكسها، وتختبرُ حدود الاستقلال المهني كلما ضاق الهامش أو اتّسعت شهيّة السوق.

منذ البدايات، كُتبت القاعدة بخطّ عريض: صحافةٌ مستقلة بقدر ما تسمح به السياسة والمال معًا. تأسست “لوموند” سنة 1944، بطلبٍ من شارل ديغول وبقيادة هوبرت بوف-ميري، لتكون يوميةً جديدة تُعيد بناء الثقة وتؤسس “جريدة مساء” متروّية في زمن الصخب.

اختار مؤسسوها أن يحموا استقلالها عبر هندسة مؤسّسية داخلية غير مألوفة آنذاك، فظهر مبكرًا وزنُ غرفة التحرير في اتخاذ القرار وتعيين القيادة، وتبلورت هويتها كصحيفة وسط-يسار ذات نزعة نقدية، تُقدّم نفسها “جريدة مرجعية” تُتَوقَّع منها المسافةُ عن السلطة أكثر مما يُنتظر منها قربُها.

ومن ديغول إلى ماكرون، حافظت العلاقة على قانونها غير المكتوب: توتّرٌ نبيل، يشتدّ مع الملفات الاستقصائية وينفرج حين تتبدّل السياقات.

فسجَلّ “لوموند” مع الرؤساء متخمٌ بالمجابهات: من معارك ما بعد الحرب وقضايا الاستعمار والجزائر، مرورا بفترات شيراك وساركوزي، وصولا إلى سجال ماكرون مع الصحافة الاستقصائية.

صاغت الصحيفة لنفسها دور “سلطة مضادّة” لا ترفض الحوار، لكنها تُمسك بالمسافة النقدية كجزء من تعريفها لذاتها.

لكن الاستقلال ليس شعارا مجانيا. فعلى الضفة المالية، دخلت “لوموند” الألفية الجديدة منهكة بأزمة نماذج الإعلانات والنشر الورقي، قبل أن يمدّها في 2010 ثلاثي المستثمرين—ماتيو بيغاس، بيار برجي، كزافيي نِـييل—بطوق نجاة استثماريّ؛ ومعه بدأ سؤال: كيف تُصان الاستقلالية في حضن رأس المال؟

بعد سنوات، جاء رجل الأعمال التشيكي دانيال كريتنِسكي إلى الهيكلة المالكة، لتنفجر داخل “لوموند” معركة على قواعد “الفيتو التحريري” وملكية التصويت التي تمنح الصحفيين، وقرّاءهم عبر جمعيتهم، حقًا حقيقيا في حماية الخطّ التحريري من استحواذ المالكين.

انتهت الجولة الكبرى سنة 2020 بفوز “قطب الاستقلال”، أي تحالف الصحفيين وموظفي المجموعة وجمعية القراء، بضمانات قانونية مُلزِمة، ثم حُسِم المشهد أكثر عام 2023 حين باع كريتنِسكي حصته لكزافيي نييل.

في المحصلة: قطاعٌ خاصّ ممأسس، لكن باستثناء فرنسي يترك للمحررين والقراء أصابع على المكابح.

في الخلفية، جرى التحول الأكبر: من جريدة ورقية إلى مؤسسة اشتراك رقمي ضخمة. أطلقت «Le Monde in English» لتوسيع جمهورها العالمي، وخفّضت اعتمادها على إعلانات متقلبة لصالح اقتصاد اشتراكات متنام.

مع نهاية 2023، تجاوز المشتركون الرقميون نصف مليون مشترك، وهي قفزةٌ تمنح غرفة التحرير هامش تخطيط أطول نَفَس وأقلّ ارتهانًا لـ”نقرات” اليوم الواحد. ولم يكن هذا التحول مجرّد تقانة، بل إعادة تعريف للمنتج: ملفات تفسيرية طويلة، صحافة بيانات، و”حِرفية الاشتراك” حيث القيمةُ في العمق والموثوقية لا في “الترند”.

على صعيد المدرسة المهنية، تُراهن “لوموند” منذ عقد ونصف على الشراكات الاستقصائية العابرة للحدود: “سويس ليكس”، و”وراق بنما”، و”بارادايس”، و”فوتبول ليكس”، ثم “بيغاسوس بروجيكت”.

ولم تكن “لوموند” في كل ذلك مجرد مشارِكٍ ثانوي، بل عضوًا ثابتا في كونسورتيومات ICIJ و«Forbidden Stories»، بما عزّز صورتها كمنصة قادرة على التعاضد المهني، وعلى تحمّل كلفة التقاضي والمخاطر باسم الحق العام.

المغرب،، من قاعة المحكمة إلى ساحات السجال

تُقرأ قصة «لوموند» مع المغرب على سطرين متوازيين: سطر القضاء وسطر الصورة.

قضائيا، تعود واحدةٌ من أبلغ المحطات إلى نهاية التسعينيات حين أدانت محاكم فرنسية مدير «لوموند» جان-ماري كولومباني بتهمة “الإساءة إلى رئيس دولة أجنبية” على خلفية مواد تتعلق بالملك الحسن الثاني، بناء على نصٌّ قانونيٌ كان يجرّم “إهانة رؤساء الدول الأجنبية”، قبل أن تسقطه المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان سنة 2002 باعتباره قيدا غير متناسب على حرية التعبير.

كانت تلك لحظة فارقة: “لوموند” خسرت داخل فرنسا أولا، لكنها ربحت على مستوى أوروبا، فكسرت قاعدة “الأنوف المقدسة” لرؤساء الدول الأجانب.

بعد عقدين، تَجدّد الاشتباك في سياقٍ مختلف: تحقيق “بيغاسوس”.

في 2021، كانت “لوموند” ضمن منابرٍ فرنسية اتُّهمت من الرباط بالتشهير بعد نشر تحقيقاتٍ ضمن “مشروع بيغاسوس”؛ وقد رفعت الدولة المغربية دعاوى أمام محاكم باريس، لكن السند القانوني كان قد اهتزّ أصلا: فمحكمة النقض الفرنسية قضت عام 2019 بأن الدول الأجنبية لا أهلية لها لرفع دعاوى قذف وتشهير في فرنسا.

عمليا، تقلّصت قدرة المغرب على مقاضاة الصحف الفرنسية باسم الدولة، وإن بقي الباب مفتوحًا أمام مسؤولين أو مؤسسات بعينها. واستمرت المعركة سياسيا وإعلاميا، لكن نصيبُها القضائي تضاءل.

خارج ساحات المحكمة، تتقدّم السردية. فتغطية “لوموند” للمغرب تركّز، وفق لحظة الخبر، على ثلاث قضايا: النظام السياسي والملكية، ملفّ الصحراء، والحريات والاحتجاجات.

وفي كل من تلك القضايا، تُفضّل الصحيفة زاويةَ “التفكيك البارد” على النقل الحرفي؛ ما يجعلها، في عيون جزء من النخبة المغربية، صحافةً “لا تُجامل”، وفي عيون جزء آخر، خطابًا “لا يمرّ بفعل حساسية الداخل”.

ومع كل موجةٍ ساخنة، من حراك الريف إلى التطبيع، ومن الجدل حول وظائف الملك إلى الحروب في الجوار، يتجدد السؤال: هل تُنصف “لوموند” الصورة المركّبة للمغرب، أم تنجذب إلى “نموذج التغطية المعيارية” لصحافة باريسية متعالية في برجها المرتفع؟

وجوه السمعة في زمن المنصات

لا تنجو صحيفةٌ “كلاسيكية” مثل “لوموند” من اختبار المنصات. فهي ليست استثناء. لقد وسّعت الصحيفة منصاتها الرقمية وأطلقت خدمة بالإنجليزية، وراكمت اشتراكات، وتبنت صحافة البيانات؛ لكنها، كي تبقى، كان عليها أن توازن بين “الانكباب التفسيري” و”لغة اللحظة”.

على هذا الحبل الرفيع، تُصنَع السمعة أو تُخدش. وفي ميزان السنوات الأخيرة، تبدو حسابات “لوموند” ناجحة مهنيا: استقلالٌ قانوني محميّ، ونموٌّ اشتراكيّ يقلل الارتهان للإعلانات، وحضورٌ ثابت في الشبكات الاستقصائية الكبرى.

في المقابل، تُواجه الصحيفة، مثل غيرها، اتهامات بالإفراط في التأطير الأيديولوجي لبعض الملفات الدولية، أو بالميل إلى “تصوّر فرنسي” لأسئلة الجنوب.

تلك ليست “خطيئة مهنية” بالمعنى الضيق، بقدر ما هي أثرٌ جانبي لطبيعة الصحافة ذات المرجعية الثقافية الواضحة، حيث تنسج المادة الصحفية انطلاقا من تصوّرات ومرجعيات راسخة في السياق الفرنسي أكثر مما تستند إلى تعقيدات الواقع المحلي.

وهنا بالتحديد يتسرّب مكمن الضعف في مقالات “لوموند” عن المغرب: غياب التعددية الصوتية التي تُتيح للقارئ أن يسمع أكثر من رواية، والاكتفاء غالبا بصوت واحد أو اثنين يعبّران عن زاوية تتناغم مع الأحكام المسبقة والصور النمطية التي يحملها الرأي العام الفرنسي عن المغرب.

ففي ستينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، حين تناولت الصحيفة قضية المهدي بنبركة، بدا صوت المعارضة المغربية في المنفى هو الطاغي، بينما غابت إلى حد بعيد أصوات أخرى تعكس التعقيدات الداخلية للمجتمع والسياسة في المغرب.

وفي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حين كانت “لوموند” تكتب عن “سنوات الرصاص”، قُدّم المغرب في صورة البلد القمعي المغلق، دون أن تُفسح الصحيفة مجالا لصوت الإصلاحات الجزئية أو التحولات الاجتماعية التي كانت تحدث بالتوازي.

أما في العقدين الأخيرين، فالمقالات التي نشرتها الصحيفة عن الملك محمد السادس، سواء حول ثروته أو محيطه أو طبيعة نظامه، أعادت إنتاج النمط نفسه: رواية أحادية تُستحضر فيها شهادات منتقاة من بعض النخب الفرنسية أو أصوات مغربية معارضة، بينما يغيب المشهد المجتمعي المركّب بما فيه من تيارات وقراءات مختلفة.

بهذا المعنى، يتحوّل “المغرب” في صفحات لوموند إلى “صورة” مطابقة لمخيّلة القارئ الفرنسي، أكثر مما هو “صوت” متعدّد يعكس واقع بلد يتسم بالتعقيد والتناقض مثل كل الدول. وهنا تصبح الصرامة التحريرية مطلوبة أكثر من أي وقت آخر: تعددية داخل المقال الواحد، شفافية في نسب الآراء والمصادر، واستدعاءٌ حقيقي لصوت البلد المعنيّ لا الاكتفاء بظلاله في المرآة الفرنسية.

وإذا كان معيار القوة اليوم هو القدرة على صدّ الضغط السياسي والمالي معا، فـ”لوموند” تُحاجج بأن بنيتها الداخلية، “قطب الاستقلال” وشراكة القراء، صمّام أمانٍ ضد “نزوات المالكين”، وأن قضاياها الرمزية، من نزاعها مع الإليزيه على حماية المصادر (قضية بيتنكور) إلى معاركها أمام القضاء الأوروبي، شكّلت رصيدا مؤسساتيا يمكن الرجوع إليه كلّما تشابكت السياسة والمال والأمن.

خلاصة القصة

“لوموند” ليست دليلا معصوما، لكنها “أرشيفٌ حيّ” لفرنسا التي تفكّر بصوت مرتفع. صحيفة تحرص على استقلالها المؤسسي، وتَتَبدّل أدواتها مع الاقتصاد الرقمي، وتتحرّك داخل توتر دائم بين ما تقتضيه المهنة وما تتيحه السوق.

ومن منظورٍ مغربي، تبدو القراءة الذكية لـ”لوموند” مفيدة لسببين: لأنها تكشف كيف يفكّر عقلٌ فرنسيٌ نافذٌ في المغرب وقضاياه؛ ولأنها، على ما فيها من نقص، تبقى مختبرا مِهنيا يذكّر بأن الصحافة الرصينة قد تتعثّر، لكنها لا تتنازل بسهولة عن دورها الرقابيّ.

ولعلّ هذا بالذات هو ما يجعل متابعة “لوموند” ضرورة لفهم باريس، تماما كما يجعل، في المقابل، التدافع معها جزءا من معركة الصورة والتمثيل التي يخوضها المغرب في إعلام العالم.