story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

لماذا “يجب ” على ترامب أن يختفي؟

ص ص

في قلب حملته الانتخابية لرئاسيات 2024 تعرض ترامب لمحاولة اغتيال. ومن نافلة القول أن هذه الحملة هي سبب محاولة الاغتيال.. وأن الغاية كما كانت (ولا تزال) هي منعه من الوصول إلى كرسي الرئاسة.. وبالتالي يصبح السؤال الأهم هو: من الذي لا يريد أن يصبح ترامب رئيسا؟

في تصوري يتعلّق الأمر بتداخل كبير بين عوامل أمريكية داخلية وأخرى خارجية. ومن المعلوم أن العوامل الداخلية في أمريكا لا تكون أبدًا داخلية محضة لأن واشنطن تسوس العالم وتصوغ سياستها الخارجية وترتب أوضاع العالم وفق وضعها ومصالحها الداخلية، في الوقت الذي ترتّب باقي الدول وضعها الداخلي وفق ترتيبات ومتطلبات وإكراهات وإملاءات السياسة الخارجية لواشنطن، وهذه الأخيرة بدورها تصوغها الدولة العميقة في أمريكا والتي باتت (الدولة العميقة) منذ عدة عقود، تحت سيطرة شبه مطلقة لما يعرف بالمحافظين الجدد منذ تكريس العقيدة الريغانية في عقد الثمانينيات .

وملخص وأهم العوامل التي أنتجت وضعا كاد أن يؤدي إلى اغتيال رئيس أمريكي سابق في خضم حملته للعودة للبيت الأبيض هي أن ترامب دخل بالفعل خلال ولايته الأولى في حرب مع هذه الدولة العميقة. وكما في كل بقاع العالم فإن الدولة العميقة في أمريكا تتجاوز الأحزاب السياسية والمؤسسات الدستورية بكل فروعها ومستوياتها وبالتالي هي فوق الحزبين الجمهوري والديمقراطي معا، وتتكون من اللوبي الاقتصادي والمالي الداخلي وأذرعه الدولية المتمثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحماة هيمنة الدولار، واللوبي الصناعي العسكري داخليا وذراعه الأهم والأخطر المتمثلة في الحلف الأطلسي واللوبي السياسي والإعلامي الداخلي المتمثل في جماعات الضغط اليهودية والصهيونية وأذرعها الخارجية المتمثلة في الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الدولية التابعة لواشنطن مثل كواد QUAD وأوكوس AUKUS وغيرها، واللوبي المخابراتي والأمني المتمثل في ال”سي اي ايه” (CIA) وال”إف بي أي” (FBI) ووكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA)، واللوبي القضائي الأمريكي المتمثل في المحكمة العليا وامتداداتها في الولايات…

كل هؤلاء هم الدولة العميقة في أمريكا. وبالتالي وعكس ما قد يعتقد البعض، ليس للحزب الديموقراطي لا الجرأة ولا الكفاءة للقيام بعملية كهذه. بل أكاد أقول انطلاقا مما سبق بأن الحزب الجمهوري، حيث “يقطن” غالبية المحافظين الجدد، لديه مصلحة أكبر في القضاء على ترامب بالمقارنة مع الديمقراطيين، ذلك أن ترامب خلال مرحلة حكمه الأولى قام بحرمان الدولة العميقة في أمريكا من أدوات الهيمنة الداخلية وتلك المتعلقة بالهيمنة الخارجية، كما ذكرناها، وسَحب أمريكا من مجموعة من المنظمات والالتزامات والاتفاقيات الدولية الاقتصادية منها والسياسية والأمنية وحتى الثقافية في آسيا وأوروبا، وأعاد ترتيب أولويات السياسة الداخلية والخارجية الأمريكية، وفق منظور جديد تطبعه الحمائية واللا تدخل، وهو ما يحد بشكلٍ هائل من تأثير وهيمنة المحافظين الجدد على الشؤون الدولية عسكريا وسياسيا واقتصاديا (وأستحضر هنا على سبيل المثال لا الحصر، تخلي ترامب عن الأكراد في حربهم مع تركيا بمجرد تغريدة بسيطة على تويتر سنة 2019، لولا تدخل روسيا لإنقاذ الأكراد من مجزرة كانت وشيكة في مواجهة الجيش التركي.

وكامتداد بشكل ما لما سبق، هناك بالطبع العديد من المستفيدين الخارجيين المحتملين من العملية، سواءً ظهرت مشاركتهم فيها بشكل مباشر أو لم يشاركوا. ودعوني في هذا الصدد أشير إلى صدفة غريبة، وهي أن محاولة الاغتيال وقعت بالتزامن مع اجتماعات الحلف الأطلسي في واشنطن. تلك الاجتماعات التي خرجت بمجموعة من القرارات من بينها ضرورة استمرار الحلف في دعم الحرب في أوكرانيا، بل وتصعيد الدعم لها سياسيا وماليا وعسكريا، مع وعود بالتحاق أوكرانيا بالحلف، وهو ما يتماشى تماما مع العقيدة الريغانية الأقرب إلى الحزب الجمهوري منها إلى الحرب الديمقراطي، والتي تحكم سياسة الحلف الأطلسي منذ ما يقرب من نصف قرن.

وحيث إن ترامب سيتراجع حتما عن أغلب قرارات الحلف كما تمت بلورتها في واشنطن فور فوزه في الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد أربعة أشهر من الآن، بما يعنيه ذلك من إنهاء الحرب في أوكرانيا، والذي سيؤدي بدوره إلى إضعاف النفوذ السياسي والأرباح المالية للوبي المركب الصناعي العسكري الأمريكي عبر حرمانه من صفقات السلاح المتعلقة بالحرب مع روسيا، ليس فقط في اتجاه أوكرانيا، بل كان المركب الصناعي العسكري الأمريكي يعول على تصدير كميات هائلة من السلاح لكل دول أوروبا أيضا، بذريعة مساعدتها على حماية نفسها من موسكو. وهناك من جهة أخرى لوبي النفط الأمريكي الذي سيجد نفسه في حال فوز ترامب محروما من الاستمرار في بيع نفطه لأوروبا أضعافًا مضاعف.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك منذ الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام وصعود الريغانية في سنة 1981 وهيمنة تيار المحافظين الجدد على مقاليد السلطة بشكل مباشر أو غير مباشر في أمريكا، هناك شبه تقسيم للأدوار بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري من طرف الدولة العميقة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والتدخل العسكري، حيث يكون هناك دائما حزب يرسل القوات الأمريكية إلى الخارج، ويتدخل عسكريا في دول أخرى قبل أن يأتي الدور على الحزب الآخر للانسحاب من تلك الصراعات وهكذا دواليك.

فأيزنهاور الديمقراطي تدخل في فيتنام، وجيرالد فورد الجمهوري انسحب منها، بوش الجمهوري تدخل في العراق وأوباما الديمقراطي انسحب منها، بوش الإبن الجمهوري هو من تدخل في أفغانستان وبايدن الديمقراطي هو من انسحب منها… وهكذا دواليك في لعبة مكنت الأمريكان من الاستمرار في بسط هيمنتهم على العالم وفق لعبة الشرطي الشرير والشرطي الطيب التي تروم إعطاء انطباع خاطئ بوجود جهة ما عاقلة وعادلة في السياسة الخارجية الأميركية،

لكن تصريحات ترامب هذه المرة في علاقتها بالنزاع في أوكرانيا جمعت الحزبين الديموقراطي والجمهوري في سلة واحدة، في ما يشكل إدانة ضمنية وواضحة للسياسة الخارجية لأمريكا برمتها وإعداما للعقيدة الريغانية، بما يحرم واشنطن من المناورة والاستمرار في تدبير الشؤون الدولية طبقا لمصالحها الداخلية.

وإذا ما حدث ذلك فإن التحالف الغربي برمته سيتفتت، وستتفتت معه أوروبا والحلف الأطلسي وباقي بنيات الهيمنة التابعة لواشنطن في جميع بقاع العالم. وسيعطي بالتالي هذا الوضع لأوروبا فرصة فتح صفحة جديدة في العلاقات الأوروبية الروسية وإعادة النظر في الترتيبات الأمنية في أوروبا بما سيمكن موسكو من أن تكون لها اليد العليا في القارة، وسيصبح الحلف الأطلسي بعد ذلك مجرد منظمة هامشية، وستتغير كذلك بنية العلاقات الأوروبية الصينية مع إحياء اتفاقات الشراكة بين بكين وبروكسل والتي كانت قد توقفت بضغط من واشنطن قبل بضع سنوات. وهذه الاتفاقية سيكون لها بالغ الأثر على حجم أمريكا تجاريا واقتصاديا وماليا، وسيسرع بانهيار الدولار، كل هذه الأشياء تبلغ من الخطورة بالنسبة لواشنطن ما يمكن أن يبرر ليس فقط اغتيال ترامب بل أبعد من ذلك بكثير.

وتشتمل لائحة المشتبه بهم كذلك في محاولة اغتيال ترامب كل امتدادات الدولة العميقة الأمريكية في أوروبا، مثل بريطانيا وبولونيا وألمانيا وأوكرانيا على الخصوص، وإسرائيل في الشرق الأوسط. كل هذه الدول تعتبر أن مصلحتها تمر عبر استمرار نفوذ الدولة العميقة في امريكا ومصلحة هذه الأخيرة تمر عبر بقاء بايدن أو من هو أقرب إليه .

خلاصة القول في نقطتين: أولاهما أنني أعتقد بأن الدولة العميقة في أمريكا والحلف الأطلسي هما المسؤولان الرئيسيان المحتملان، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي السابق (وربما اللاحق) دونالد ترامب، وثانيتهما أن ترامب لا يزال مرشحا فوق العادة للاغتيال .

كما أعتقد بأننا لن نعرف قريبا من كان حقيقة وراء محاولة التخطيط لاغتيال ترامب لأن أذرع الدولة العميقة في أمريكا ستعمل على إخفاء كل الدلائل، وهي قادرة على ذلك. لكن ما يمكن قوله الآن، هو أن الحزب الديموقراطي، وإن كان مستفيدا من العملية، فإنه بريء يقينا من تنفيذها، وأن الحزب الجمهوري، وبالخصوص صقور الحزب وبقايا المحافظين الجدد، وهم كثر وجلهم مساند بشكل كبير لإسرائيل، هم أقرب إلى العملية من الديمقراطيين.